جاك رانسيير.. من أجل فهم عالمنا المعاصر اللامَجيد

جاك رانسيير.. من أجل فهم عالمنا المعاصر اللامَجيد

27 فبراير 2022
جاك رانسيير في منزله بباريس، 1999 (لوي مونييه/ Getty)
+ الخط -

ما إن اقترح الاقتصادي الفرنسي جان فوراستييه (1907 ــ 1990) مصطلح "الثلاثون المجيدة"، عام 1979، لتسمية فترة الازدهار الاقتصادي التي عاشتها فرنسا ومعها العديد من البلدان الغربية بين نهايات الحرب العالمية الثانية وعام 1975، حتى تحوّل هذا المصطلح إلى تعبيرٍ قارٍّ وكلاسيكي، في وسائل الإعلام أوّلاً ثم في حقول البحث الاجتماعي، لوصف تلك المرحلة. تعبيرٌ تحوّل، مع الوقت، إلى معيار مقارنة مع فترات الانحدار الاقتصادي، وضعف القدرة الشرائية، التي يعرفها العالم - في موجات متفرّقة لكن متتابعة ــ منذ ذلك الوقت.

في كتابه الأخير، "الثلاثون اللامجيدة"، الصادر حديثاً لدى منشورات "لا فابريك" في باريس، يُحيل الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير (1940) بشكل مباشر إلى مصطلح فوراستييه، لكنّه يُخرجه من حيّزه الاقتصادي الضيّق ليجعله معيار مقارنة سياسياً هذه المرّة، حيث يضع أمام تلك العقود الثلاثة "المجيدة" عقودَ تدهور سياسي "غير مجيد"، هي هذه التي نعيشها منذ عام 1991. ومن هنا يأتي العنوان الفرعي للكتاب، "مشاهد سياسية"، الذي يُحيل إلى أحداثٍ وقضايا سياسية تناولها رانسيير في مقالات كتابه هذه، التي سبق له نشرها أو تقديمها خلال محاضراتٍ ووقفات احتجاجية ومداخلاتٍ إعلامية.

يبدأ الكتاب بتِبعات سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهي الفترة التي قُدّمت، من قِبَل فوكوياما وغيره، بوصفها افتتاحاً لمرحلة يسود فيها الإجماع على الديمقراطية باعتبارها أسلوب الحُكمٍ الوحيد الذي يجمع بين الفعالية والشرعية ويلقى "إجماعاً" من الحاكمين والمحكومين. لكنّ صاحب "كُره الديمقراطية" (2005) يُظهر، في أكثر من مقال من كتابه، ليس فقط فشل هذه الأحلام وعدم صوابيتها منذ البداية ــ وهو شيءٌ بتنا نعرفه جميعاً، بل يشرح أيضاً كيف أن الديمقراطية ولّدت نقيضها من داخلها، مثل ثمرة كانت منذ البداية تحمل الدودة التي ستقود إلى تعفُّنها. وهو يشير إلى عددٍ من الأسباب لهذا التعفُّن، من بينها إفراط النظام "الديمقراطي" في تخويل الشرعية والصلاحيات لنفسه، والمماهاة بين الديمقراطية والليبرالية، أو بين الديمقراطية وحُكم الأغنياء، إضافة إلى ظهور الحرب "العادلة" - لكن المدمّرة في الواقع ــ كتعبير عن تفحُّش الأنظمة الديمقراطية في استغلال الشرعية والنظام العالمي الذي تحكم من خلاله.

نصوصٌ تنتقد الليبرالية وتقترح مفاهيم لتحليل العنصرية

وإن كان الكتاب يبدأ ــ لناحية التسلسل الزماني - بمسألة الديمقراطية على ضوء انهيار جدار برلين، فإنه ينتهي بالنقاش السياسي الذي ولّدته جائحة كورونا في العامين الماضيين وفترات العزل الصحّي التي تسبّبت بها؛ وما بين هذين التاريخَيْن يستعرض رانسيير أيضاً مسائل مثل تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وصعود الشعبوية في الغرب، وسنوات حُكم ترامب للولايات المتّحدة، ولا سيّما الأخيرة منها التي رافقها اقتحام "الكابيتول" في واشنطن، وموجة الاحتجاجات العالمية التي بدأت بالربيع العربي، وكذلك احتجاجات أصحاب السُّترات الصفر في فرنسا، وغيرها.

الصورة
رانسيير

ورغم أن هذه الأحداث تبدو مفرطةً في سياسيّتها، أو تبدو، بعبارةٍ اُخرى، وكأنّها لا تشكّل موضوعاً اعتيادياً للتفكير الفلسفي والمفهوميّ، إلّا أن صاحب "كُره الديمقراطية" يعالجها بقراءة وعتاد فلسفيّين لافتَيْن، إن كان لناحية المفاهيم الجديدة التي يقترحها - مثل "العنصرية من الأعلى" الذي يسمّي من خلاله ظاهرة ادّعاء الحكومات والنخب الدفاعَ عمّن يعانون من العنصرية، أو لناحية التحليل النقديّ، الذي يُخرج تلك المواضيع السياسية من إطارها الآنيّ ليجعل منها أرضاً خصبة لفهم عالمنا المعاصر... اللامَجيد.

المساهمون