"بانجي وسيكارتاجي".. ملحمة الرحلة إلى الذات

"بانجي وسيكارتاجي".. ملحمة الرحلة إلى الذات

25 مايو 2023
من العرض (متاحف قطر)
+ الخط -

لا يُعرف كاتب واحد لملحمة "بانجي وسيكارتاجي" الإندونيسية، كما هي الحال في كتاب "ألف ليلة وليلة"، فالحكايات تتناسل من بعضها البعض وتتعرض للإضافة والتحوير بحثاً عن أجود ما تجود به قريحة السرد الشفوي وقبل هذا، معنى الحياة عبر رحلة طويلة.

ما شاهدناه مساء الإثنين الماضي في "دار الأوبرا" بـ"الحي الثقافي - كتارا" في الدوحة، ضمن برنامج العام الثقافي "قطر- إندونيسيا 2023"، مسرحية غنائية بعنوان "حياتي: بانجي يبحث عن جوهر الحب"، نهلت من قصص "بانجي وسيكارتاجي" لتقدم خمسة مشاهد تكثف رحلة أمير عاشق يواجه المخاطر بحثاً عن محبوبته سيكارتاجي.

في جاوة

وفي الأصل، فإن الملحمة التي نشأت في بلاط قصور مملكتي كيديري وجانغالا في شرق جاوة خلال القرن الثاني عشر، تدور في ممالك مختلفة هي التي يقطعها الأمير بانجي بحثاً عن سيكارتاجي الموصوفة دائماً بأنها فائقة الجمال. وفي الأثناء تبرز الدروس الأخلاقية والقيم الثقافية عبر صراعات الخير والشر والولاء والشجاعة والمثابرة.

ما أشار إليه المخرج المسرحي الإندونيسي راما سوبرابتو في بيان لمبادرة الأعوام الثقافية التي أطلقتها متاحف قطر منذ 2012، هو نسخة مبسطة من لوحات مسرحية على مدار ساعة ونصف لنصوص متوارثة منذ قرون، مبيناً "لقد أردت في العرض المسرحي تقديم عمل يستطيع الجمهور استيعابه والتفاعل معه، وكان ذلك مهمة صعبة لكنها مطلوبة بشدة".

وبذلك اقترح المخرج نصاً بصرياً أنتج خصيصاً لمبادرة العام الثقافي "قطر- إندونيسيا 2023"  تداخلت فيه تقنيات الفيديو مع مشاهد التمثيل الحي بجمل شعرية مترجمة على الشاشة من الإندونيسية إلى الإنكليزية، أو تعبيرية من خلال الأداء الصامت "البانتومايم"، وعلى يسار المسرح فرقة موسيقية تقتعد الأرض مع آلات الميتالوفون والكسيلوفون والطبول والصنوج، في نمط موسيقي شهير يسمى "غاميلان"، يصاحب الرحلة الصاخبة إلى الغابات والبحار، ويصاحب كذلك البطل في رحلته الأعمق إلى الذات.

تراث عالمي

وكما هي الحال، حين يجترح مخرج مرئيات جديدة في عام 2023 لتراث قصصي، فإنه مع غيره يؤكد أن هذه الملحمة خرجت عن كونها ملكاً جاوياً. احتفظت ببنيتها الصلبة حين ولدت هناك، ثم انتشرت عبر هذا الأرخبيل الضخم، وكانت تمثل في مسارح خيال الظل، وها هي اليوم موجودة في أنواع مختلفة من الفنون الإندونيسية مثل الدراما التلفزيونية والرسوم والصور المتحركة وألعاب الفيديو، وكانت لديها طاقة إبداعية لتحل في كل بلدان جنوب شرق آسيا، ومنها إلى اقتباسات أخرى على مستوى العالم.

الصورة
(من العرض، تصوير: متاحف قطر)
(من العرض، تصوير: متاحف قطر)

كان العمل المسرحي في "كتارا" يضع مشاهديه أمام إدراجين عالميين على قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة يونسكو. الأول ملحمة "بانجي وسيكارتاجي" التي دخلت القائمة عام 2017، والثاني موسيقى غاميلان الجاوية الشعبية التي دخلت عام 2021.

أما الأزياء فقد استلهمتها المصممة الإندونيسية إيرا سوكامتو كما في أغلب أعمالها من مملكتي ماتارام وماجاباهيت القديمتين، ومن تصميمات الباتيك الإندونيسية التقليدية.

حمل الممثلان والفنانان الاستعراضيان أحمد ديبيونو، (بانجي) وكاديك ديوي أرياني (سيكارتاجي) العبء الأكبر بطبيعة الحال.

"فراغ مؤلم"

تفتتح المسرحية بمشهد "الفراغ المؤلم" داخل منزل الأمير بانجي الذي يقف كأنه تمثال أجوف، مناجياً نفسه "قلبي مفطور وروحي ضائعة. أيجب عليّ البحث عن الحب الحقيقي؟ الروح خاوية. أين عساي أن أبحث عن الحب الطاهر؟".

في الأثناء يظهر المعلّم "جورو" وهو من عامة الشعب، ولكن رحابة نفسه وحكمته تسع العالم كله، ويؤمن بأن الحب النقي يدفع المرء للشوق إلى الخالق. وهو يبث في بانجي طاقة لفهم معنى الكون، وبأن البشر عليهم مواصلة البحث عن المغزى.

يرتدي بانجي قناعاً أبيض في مشهد "بداية الرحلة نحو حافة الكون" مصحوباً بعاصفة رملية، بوجود مرشدين يتجادلان حول الجهات فلا يعرفان الشرق من الغرب، ولكن لا مناص من مواصلة الرحلة.

يظهر المعلم جورو كلما وقع بانجي في امتحان وجودي. الأمير البطل يرى سراب امرأة، ويحاول الإمساك بالسراب، ويقع تحت شعور يائس بأن جسده يذوب وتقترب حياته من النهاية دون تحقيق المراد، فيقول جورو "ما دمت تبحث عن الجسد فلن تجد شيئاً. الكون الذي تخوض فيه لن يأخذك إلى الحافة، لأنه ليس هذا الكون الذي عليك استكشافه. إن الكون الذي في روحك هو الذي يجب أن تفهمه".

الأقنعة

ثلاثة أقنعة رمزية يرتديها بانجي، فحين بدأ بقناع أبيض كان مؤمناً بشغف الرحلة، ولكن يأسه يوقعه في الغضب، فيقتل طائرين في الغابة لمجرد أنهما مازحاه، ليتحول قناعه إلى اللون الأحمر.

ما كان ينبغي على بانجي ارتداء قناع أحمر، لكن القصص التراثية لا تستقي حكمتها إلا من الصراع. وعليه سيخوض الأمير المرتحل قتاله العنيف مع كائنات وحشية تسعى لسلب روحه، فيكاد يلقى حتفه.

والكائنات التي ينتجها خيال البشر من غيلان وتنانين ومسوخ، مرايا لصراعه الأزلي على السيطرة والغلبة والسلطة. لهذا وقبيل اختتام المسرحية يواجه بانجي بلسان محبوبته إذ تقول "الغضب لن يوصلك إلى أي مكان، وسيبعدك عني أكثر. توقف عن ازدراء جروحك ولعن المعاناة. المعاناة هي التي ستخرجك إلى النور".

وفي النهاية يبكي بانجي حين يخلصه "رانغا" حارس الغابة ويعيد إليه روحه النبيلة فيرتدي بانجي قناعاً ذهبياً، كما تظهر محبوبته سيكارتاجي بقناع الذهب، وتقول له "لقد كنت هنا طوال الوقت. أصاحب رحلتك في صمت. اقترب مني أكثر ستجدني في أعماق روحك".

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون