الوطني والمستورد

الوطني والمستورد

29 مارس 2024
عمل للرسام الفرنسي جاك ديديه
+ الخط -
اظهر الملخص
- الصناعة الوطنية السورية كانت تُعتبر مصدر فخر وهوية، تتميز بالجودة والإتقان في مجالات مثل الزجاج، الإسمنت، والنسيج، مما يعكس علاقة عميقة بين المنتجات المحلية والهوية الوطنية.
- تغيرت المفاهيم حيث أصبح المنتج الوطني يُنظر إليه على أنه دون المستوى مقارنةً بالمستورد، الذي بات يُشاد به ويُفضل، مما يعكس تحولاً في القيم والتفضيلات الاستهلاكية.
- النقاش حول الهوية والتأثير الثقافي يمتد إلى الأدب، حيث يُنظر إلى الرواية العربية على أنها مستوردة ثقافياً، ويُطرح السؤال حول ماهية العربي فيها، في حين تُستخدم فكرة "المستورد" لرفض أفكار مثل الديمقراطية باعتبارها غير مناسبة للهوية الوطنية.

اعتاد الناس أن يُسمّوا ما يصنع في الداخل السوري "الوطني"، بينما يُطلقون على كلّ ما عدا ذلك اسم "المستورد". كانت الصناعة الوطنية إحدى المفاخر السورية، في أكثر من مجال: فالزجاج السوري، والإسمنت، والنسيج السوري الصناعي، واليدوي، كانت أمثلة للجودة والإتقان والثقة، بحيث يُمكن اعتبارها هوية تتحدّى من حيث الجودة مثيلاتها من الصناعات التي تُستورد إلى البلد. 

لم يكن للأمر علاقة بـ"الوطنية" سياسياً من حيث الظاهر، وإنما كان الاسم مستمدّاً من الجغرافية المحلية التي تسمّى وطناً. وبفضل المتانة وحسن الصناعة، كان خيطاً رفيعاً من المشاعر يمتدّ ليربط بين السوري وبين ثوب النسيج المصنوع بأيدي الحِرفيِّين المهَرة في معامل النسيج السورية.

والظاهر أنّ السوريّين في تلك الأزمان كانوا يحاولون أن يحسّنوا صناعة الوطن، بالقدر نفسه الذي يصبح فيه مناسباً أكثر فأكثر للعيش، والحياة الطيّبة. بينما كانت الرياح تشتدّ بهم وبسفينتهم في اتجاه آخر.

ما يبدأ بأنماط الأدب ينتهي بطرق الحُكم وبالسلطة

انقلبت التسميات والمفاهيم اليوم، إذ بات الوطني عاديّاً، أو دون العادي، أو رديئاً من ناحية الصنع، بينما يُشاد بالمستورد، ويُمدح، ويُباع، أو يُشترى بيُسر وسهولة وبأغلى الأسعار. ينطبق هذا على معظم السِّلع الموجودة في الأسواق ومن كلّ الأنواع أيضاً، كما ينطبق على معظم البلاد التي يستورد منها التجّار (عدا الصين ومصنوعاتها الرديئة بالطبع). وحين يجد أي مواطن أنّ الوطني مصنوع بمواصفات جيّدة، فإنّ أول ما يفكّر فيه هو نسبته إلى الخارج، أي أنه يُشبه كذا من الصناعات في كذا من بلاد العالم.

اللافت أنّ شريحة كبيرة من القرّاء، والنقّاد أحياناً، باتت تنسب الكاتب إلى الخارج، خاصة في حقل الرواية، أو القصة، أو المسرح، ربما لأنّ هذه الأنواع نشأت عبر التأثّر الثقافي، بينما يعفى الشعراء العرب من هذا التنسيب؛ لأن للشعر جذوراً عربية موغلة في القدم. هل يردُّ السبب إلى عدم قدرة الرواية العربية بعدُ على اجتراح هوية خاصة بها، تمنحها حقّ الوجود كرواية عربية؟ أم أن العقل العربي السائد اليوم مطحونٌ ومستعبَد وراضخ لقوّة الثقافات القادمة من الخارج؟ أم يعود إلى أيديولوجيا تفوُّق كسيحة ترفض التأثّر؟ كأنّ الرواية العربية مجرّد خيط نسيج صوفي أو قطني أو حريري مستورد يُغزل محلياً. والسؤال الذي يظل يتكرّر: ما العربي في الرواية العربية؟ الشكل أم المضمون؟ وعلى أي فكرة يتّكِئ من ينسب قيمة رواية عربية إلى الرواية الغربية؟ تبعيتها أم فرادتها؟ 

يبدو الأمر معكوساً في عالم الأفكار بحسب ما تراه السلطة العربية، أي سلطة كانت، سواء السلطة السياسية، أو السلطة الدينية، أو السلطة الاجتماعية، إذ تستخدم كلمة "المستورد" كي تجعل من الأفكار الإنسانية مشوّهة أو مُغرضة أو خائنة أو طارئة على الحياة. تُرفَض الماركسية بذريعة أنها مستوردة، كي تُرفَض أفكارها عن نهاية الاستغلال، وتُرفَض الليبرالية للسبب نفسه، وسوف تصبح الديمقراطية بضاعة مستوردة أيضاً. وفي هذه الحالة، يستخدم مفهوم الاستيراد الفكري، من أجل القول بعدم صلاحيته للوطني، والأدهى من ذلك أن يستخدم الوطني، وهم شعوب هذه البلاد للقول إن المستورد، وهو هنا الديمقراطية، لا تناسبهم. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون