العرب والأتراك... حين يفرّق "المثقفون" بين الشعوب

العرب والأتراك... حين يفرّق "المثقفون" بين الشعوب

14 اغسطس 2021
(عمل لـ فخر النساء زيد)
+ الخط -

بالتأكيد، كان خوف والدة صديقي الإيطالي مُبرَّراً، حين عرفتْ أن ابنها يُعدّ حقيبته للذهاب لزيارة صديقه المصري؛ فقد سمع العالَم بأكمله قصة خطف وتعذيب وقتل الباحث الإيطالي الشاب جوليو ريجيني في مصر من قبل الأجهزة الأمنية عام 2016، إلّا أنَّ الغريب في الأمر أنّها لم تهدأ حتى بعد أن أخبرها ابنها بأنه سيذهب لزيارة هذا الصديق في إسطنبول.

ورغم كونه مجرّد انطباع لامرأة إيطالية تعيش في قرية نائية بسويسرا مع عائلتها منذ أكثر من خمسين عاماً، إلّا أنه أثار داخلي العديد من الأسئلة حول طبيعة العلاقة بين العرب والأتراك. كنتُ أتصوّر أنّ هذه الأسئلة قد خطرت ببالي بسبب ما يتعرّض له اللاجئون السوريون من حملات كراهية في تركيا في الأسابيع الأخيرة، لكنّني اكتشفت أنّ الأمر بالنسبة إليّ أبعد من ذلك بكثير. وخصوصاً أنّ مثل هذه الحملات تتكرّر كل عام تقريباً، ولكن هل هذا ما يتصوّره بالفعل أبناء هذين الشعبين عن علاقاتهما التاريخية؟

وإذا كانت الترجمة هي وسيلة تعارف العرب والأتراك على بعضهما البعض، فإن المتابع لواقع الترجمات العربية التركية، سيلاحظ بسهولة دور الأيديولوجيا في اختيار العناوين المُتَرجَمة. دور النشر العربية والتركية ذات الميول الإسلامية، تركّز في السنوات الأخيرة على ترجمة المدائح في التاريخ العثماني، الذي جمع بين العرب والأتراك وغيرهم لعقود، من منظور إسلامي بطبيعة الحال، كما تقوم بعض دور النشر العربية ذات التوجُّهات القومية أو اليسارية في هذا السياق بترجمة الكتب التي تشوّه ذاك التاريخ بالكامل. أمّا دور النشر التركية ذات نفس التوجّهات، فلا تهتم بأمر العرب من الأساس، وتهتم فقط بترجمة الفكر أو الأدب أو التاريخ القادم من أوروبا التي في خيالهم، وما زالوا يحاولون أن يصبحوا جزءاً منها.

أصبح بعض "المثقفين" العرب مجرد أدوات لأنظمة الثورات المضادة

ينعكس ذلك أيضاً، على طريقة تلقّي الأتراك لفكرة لجوء العرب في بلادهم؛ المحافظون دينياً ينظرون إلى اللاجئين باعتبارهم "إخوة" في دين وتاريخ مشترك جمعهما لمئات السنين، مقابل قطاعات أُخرى في المجتمع لا ترغب في تذكُّر ذاك التاريخ، حتى أنَّ بعضهم ما زال يردّد اتهام بعض الأتراك للعرب بـ"طعنهم من الخلف" منذ الحرب العالمية الأولى. وقد وجد السوريون وغيرهم من العرب أنفسهم في هذه الثنائية ببلد تاريخه معقّد، وتظهر فيه أزمات الهوية بأبسط المعاملات اليومية.

كثيراً ما انشغل الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين (1915 - 1995)، بمسألة علاقة العرب بالأتراك، وخصوصاً بعد زيارته لمصر عام 1966 في مؤتمر أدباء آسيا وأفريقيا، والعراق بعد عشر سنوات من زيارته لمصر في المؤتمر نفسه. وقد عبّر عن ذلك في أكثر من لقاء، وكان دائماً ما يشير إلى أنّ الأدب هو العامل الذي يضمن المعرفة الجيّدة بين المجتمع التركي والعربي. يقول في مقدّمة كتابه "الخوف من الخوف" (ترجمة عبد القادر عبد اللي): "من غير الممكن أن يتعرّف الشعبان التركي والعربي، أحدهما على الآخر، من خلال العلاقات بين الحكومات والتجارة فقط. لا يمكن أن يتحابّا دون أن يتعارفا عن كثب. وهناك ما يمكن أن يؤدّي إلى المعرفة المتبادلة بيننا بالتأكيد، إنه شعرنا ورواياتنا، وقصصنا وحكاياتنا، أو بكلمة واحدة: أدبنا".

المثير للدهشة أن بعض الذين يُوصَفون بـ"المثقَّفين" في المجتمعَين العربي والتركي، صاروا هم أنفسهم أدوات القطيعة بين الشعبين. بعض الفنّانين والمثقّفين الأتراك نشروا تغريدات محرّضة على السوريّين، على أثر قتل شاب سوري لشاب تركي في أنقرة قبل يومين بعد وقوع مشاجرة بينهما، تسبّبت في اعتداء مئات الأتراك على بيوت ومحلات سوريّين في العاصمة التركية. كما أصبح بعض المثقّفين العرب مجرَّد أدوات لأنظمة البلاد العربية التي انتصرت فيها الثورات المضادة، وصاروا يهاجمون تركيا كما لم يهاجموا "إسرائيل".

هناك استثناءات إيجابية في هذا السياق، يجب ألّا تُنسى، لكنها تنحصر جميعاً في مجال الترجمة، ولم تتجاوزه إلى إقامة حوارات جادّة بين النخبة العربية في تركيا. يمكن ذكر مشروع "تيدا" الذي أطلقته وزارة الثقافة والسياحة التركية عام 2005، لدعم ترجمة النتاج الثقافي التركي إلى لغات مختلفة، وبالأخص العربية، واهتمام بعض دور النشر العربية بالترجمة من الأدب التركي. ولكن من جانب آخر، تظلّ أغلب هذه الترجمات تركّز على الأسماء الرائجة فقط، دون انتقاء، ولا تعتمد على آليات واضحة بهدف بناء جسور ثقافية حقيقية بين العرب والأتراك، بعد عقود من القطيعة التي فُرضت على الشعبين.


* شاعر ومترجم مصري مقيم في إسطنبول

المساهمون