أتراكٌ اختاروا الوطن العربي مكاناً لسردهم (2-2)

أتراكٌ اختاروا الوطن العربي مكاناً لسردهم (2-2)

04 أكتوبر 2023
أطلال من مسار سكة حديد الحجاز بين حيفا والأردن (Getty)
+ الخط -

إلى جانب الكتّاب والشعراء الأتراك الذين وُلِدوا ونشأوا في مدن عربية، والذين استعرضنا في مقالة سابقة على هذه الصفحة تجارب ثلاثة منهم: أحمد هاشم، ويعقوب قَدْري (كارا عثمان أوغلو)، وبَكِر إلهامي (تيز/ الطُّوَيْبي)؛ ثمّة أُدباء أتراك اختاروا الوطن العربي مكاناً لسردهم أو أدبهم. سبق أن وقفنا هنا عند تجارب ثلاثة من أبرزهم: أحمد مدحت أفندي، وجناب شهاب الدين، وفالح رفقي (آطاي)، نُتابع في هذه المقالة مع رفيق خالد (كاراي)، وعبد الحقّ حامد.

رفيق خالد (كاراي)

الكاتب الأخير الذي وضع أعمالاً وقعت أحداثُها في الأراضي العربية هو رفيق خالد (كاراي). كان أثناء حرب التحرير التركية مُناهضاً لحركة أتاتورك وموالياً لحكومة إسطنبول السلطانية المتواطئة مع الاحتلال البريطاني. ونظراً لقناعته أنَّ حكومة أنقرة الموالية لأتاتورك ستعتقله بسبب هذا الموقف، هربَ إلى جزيرة رودوس في عام 1922، ومنها إلى بيروت. 

الصورة
الكاتب رفيق خالد كاراي
الكاتب رفيق خالد كاراي

بعد أن عاش لمدة ستّ سنوات في بيروت، انتقل إلى حلب، حيث كتبَ مقالات ضدّ الجمهورية التركية الحديثة في صحيفة تصدر في حلب باللغة التركية. ثم تم تعيينه مديراً للقسم الأدبي لصحيفة "الوحدة"، الصادرة أيضاً في حلب، والتي كانت تدعمها الحكومة التركية الجديدة. بعد ذلك، تحسّنت علاقته مع حكومة أنقرة، فكتب مقالات لصالح تركيا الجديدة، كما تواصل مع شباب في أنطاكيا، وعقدَ اجتماعات سرّية معهم، وبذل جهوداً كبيرة من أجل انضمام أنطاكيا إلى تركيا. في عام 1937، عندما بدأت الحكومة السورية في اتخاذ إجراءات قاسية ضدّ القوميّين الأتراك، أصدرتْ حكومة أنقرة قرار عفو عن المعارضين. وبناءً على هذا القرار، عاد رفيق خالد إلى إسطنبول.

للكاتب ستّ روايات تدور أحداثها في الأراضي العربية، وهي: "ابنة الأزيدي" (1937)، و"عصابة" (1939)، و"حكايات الغُرْبة" (1940)، و"المنفى" (1941)، و"ثمّةَ عالَمٌ تحت الأرض" (1953)، و"العنكبوت" (1953).

ستّ من روايات رفيق خال تدور أحداثها في أرض العربية

في رواية "ابنة الأزيدي" تلتقي الفتاة الأزيدية "زيلي"، وحكمت علي، عضوُ البرلمان، على متن سفينة متّجهة إلى بيروت من مرسيليا. عندما ترسو السفينة في الميناء، تذهب زيلي إلى تَدْمُر (بالميرا) حيث تُقيم، بينما يذهب حكمت علي إلى مسقط رأسه حلب. في وقتٍ لاحقٍ تدعو زيلي حكمت علي إلى تدمر، وتعترف له أنّها أزيدية، وأنّ لها ثروةً طائلة من والدها، وترغب في جمع كلّ الأزيديّين في العالم ليستوطنوا جزءاً من شرق تركيا. تطلب زيلي المساعدة من حكمت علي باعتباره نائباً في البرلمان بسورية. فيكتب حكمت علي رسالة إلى أصدقائه في أنقرة ليُحقّق هذه الأمنية، إلّا أنه تلقّى من كلّ واحدٍ منهم ردّاً سلبيّاً. بعد فترة، عَلِمَ البريطانيون بخطّة زيلي وحكمت علي لإنشاء موطن حديث وآمن للأزيديّين، فقاموا بترحيلهما. يقارن الكاتب في الرواية الفتاة الأزيدية زيلي مع ملكة تدمر زنوبيا.

وفي روايته "عصابة" التي كتبها في حلب وأكملها في إسطنبول، يروي حروبَ العصابات التي خاضها الأتراك في الجنوب ضدّ الغزو الفرنسي لسورية ولجنوب شرق الأناضول.

أمّا في مجموعته القصصية "حكايات الغُربة"، والتي كتبها في المنفى وبعده، فيروي لنا رفيق خالد في قصة "مُصلِح الأحذية" كيف يتمُّ إرسال طفلٍ تُرِكَ دون رعاية، بسبب وفاة والديه، إلى عمّته في فلسطين. بطلُ القصة هو حَسَن الذي أُرسل إلى حيفا. بما أنه لا يستطيع التحدّث باللغة العربية، فإنه يُفضّل التزام الصمت. ذات يوم، تتّصل عمّة الصبي برجُل عجوز لإصلاح الأحذية في المنزل. وفي اللحظة التي يشعر فيها بالوحدة، يرى رجلاً عجوزاً يأتي إلى مقدّمة المنزل لإصلاح الأحذية، فيبدأ الطفل بمشاهدته. ثم يسأله وهو شارد سؤالاً باللغة التركية. يفاجَأ مُصلح الأحذية في البداية ثم يدرك أنّه تُركي مثله، ويبدأون الحديث باللغة التركية بسبب اشتياقهم الكبير للغة والوطن. عندما ينتهي عمل الرجل العجوز ويحين وقت الرحيل، تبدأ الدموع بالتدفّق من عينَي حسن، في حين يحاول الرجل العجوز تهدئته والدموع تنهمر من عينيه هو أيضاً.

بالنسبة لرواية "المنفى"، التي نجد فيها آثاراً من حياته، فتدور أحداثها في سورية ولبنان. أمّا رواية "ثمّةَ عالَمٌ تحت الأرض" فتتحدّث عن الذَّهَب الذي أرسله جمال باشا إلى سورية لتوزيعه على القبائل العربية، وعن الإشاعات حوله. من ناحية أُخرى، تستند وقائع رواية "العنكبوت" إلى أحداث جرت في مقرّ "القنصلية التركية" بلبنان. يدّعي الكاتب في هذه الرواية أن إرث الإمبراطورية العثمانية مستمرّ على الرغم من انهيارها، حيث نجد في الرواية أنماطاً وعلاقات بشرية من العهد العثماني. 

عبد الحقّ حامد

سبق للكاتب المصري يحيى حقي أن تحدّث عن عبد الحقّ حامد في كتابه "أنشودة البساطة". يذكر يحيى حقي أنّه في أثناء وجوده في إسطنبول، كأمين محفوظات في "القنصلية المصرية" بتركيا، التقى أكثر من مرّة مع الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك. ويُعرب يحيى حقي عن أمله أن يكتب يوماً عن أتاتورك. 

اتصل يحيى حقي أثناء مهمّته في إسطنبول ببعض الأدباء الأتراك، وفي مقدمتهم الشاعر يحيى كمال وعبد الحق حامد الذي وصفه بأنه "شكسبير تركيا"، حيث ترك هذا الأخير أثراً كبيراً في نفسه، فيكتب عنه في "أنشودة للبساطة" ما يلي: 

"... كان يجوس خلال الصالونات الراقية التي يغشاها السلك الدبلوماسي، شيخ محطَّم، تقوده من يده زوجتُه الشابة الفرنسية الحسناء كما تقود طفلَها لتعلِّمه المشيَ، هو زوجها وابنها وصَنَمها. ومع ذلك كان متأنّقاً في ثيابه، الياقةُ منشية، الحذاء لمّيع، المونوكل على عينِه اليُسْرى، مُوضةُ عصر شبابه، قبطانُها المتدلِّي يتعرّج الى عُرْوة سترته من تمام زينته، يُقبِلُ على نجوم المجتمع من النساء الصغيرات الجميلات لا الرجال الخناشير أيّاً كان منهم. هذا القصيرُ القامةُ إذا أقبَلَ ارتدَّ كلُّ مَنْ بالحُجْرة إلى حَجْم الأقزام، يتقبّل التبجيلَ الصامتَ الكَيِّسَ بِنُبْلٍ تَقَبُّلَ مالك العِزْبة لما يحمله إليه الخَولِّي من خيراتها... كلامُه قليل، ولكنَّ نظرتَه لا تزال تجرِّد الأجسامَ من ثيابها والأرواح من أقْنِعَتِها، أعترف أنّها كانت نظرة تخيفني، أُحسّ أنّني تعرَّيْت أمامه... فقد أجمع كافة النُّقّاد على أن روحَ عبد الحقّ حامد وعاءٌ تَقْبَلُ أن تَصُبَّ فيه على وفاق الأحاسيس سواء ما ائتلف منها وما اختلف... وعاء جمع المتناقضات، قالوا عنه: فيه شيء من الشيطان وشيء من الملاك. لو كنتَ غريباً جاهلاً به ورأيتَه لسألت مَنْ حولَك: من هو هذا الشاعر العظيم؟".

الصورة
الشاعر التركي عبد الحقّ حامد
الشاعر التركي عبد الحقّ حامد

لا تقتصر الأعمال المتعلّقة بالأراضي العربية بهذه الأسماء. هناك أسماء أُخرى ليس عندنا المجال للحديث عنها كلّها. من هؤلاء المؤلّفين: ميزانجي مراد، وأحمد إحسان، وخالدة أديب، وسليمان نظيف، وعبد الحق شِناسي، ومحمد عاكف أرصوي، وأحمد حمدي طانبينار، وعبد الحق حامد.

ترجمة الأدبين العربي والتركي تبدّد الصور النمطية
 

بعد هذا العرض الموجز عن القرابة الأدبية التركية مع العرب، نفهم أنّ هناك روابط تاريخية عميقة بين الشعبَين، تتّسم بالإيجابية أحياناً وبالسلبية أحياناً أُخرى. يجب أن نواجه بكلّ أريَحِيّة الإيجابيات والسلبيات على حدٍّ سواء لنكون موضوعيّين في التعامل بعضنا مع بعض. بهذه المقاربة يُمكننا بناء مستقبل أفضل ليس في مجال الآداب والفنون فحسب، بل أيضاً في مجالات العلوم والفلسفة والتصوّف والموسيقى والسينما والمطبخ والفولكلور وما إلى ذلك. والترجمة للأدبين العربي والتركي لها دور مهمّ في تحقيق ذلك.

* أكاديمي ومترجم تركي، أستاذ اللغة العربية في "جامعة غازي" في أنقرة

المساهمون