"هي" للصايغ وماضي والرواس: حياة ثانية للوحات

"هي" للصايغ وماضي والرواس: حياة ثانية للوحات

20 مارس 2022
(من المعرض)
+ الخط -

معرض الثلاثي سمير الصايغ وحسين ماضي ومحمد الروّاس، في "غاليري صالح بركات" في بيروت (مستمرّ حتى السابع من أيار/ مايو المقبل)، مفاجأةٌ في أكثر من وجه. مفاجأة أوّلاً لأنه يضمّ كباراً في فنّهم، بل هم الكبار في جيلهم وفي أعمالهم.

قد يكون حسين ماضي آخر الكبار في جيله، وهذه هي حال محمد الروّاس. أمّا سمير الصايغ، الشاعر الخطّاط والناقد التشكيلي، فهو علَمٌ في هذه المجالات الثلاثة. حسين ماضي - رسّاماً ونحّاتاً - صاحبُ عمل شديد الخصوصية، سواء كان ذلك في لوحاته أو رسومه أو منحوتاته. نحن في هذه وتلك أمام فنّان صنع في كلّ طور من حياته الفنية عملاً له بصمته وتوقيعه. نحن هنا، ودائماً، أمام صاحب أسلوب وصاحب لوحة وصاحب رؤية.

الصورة
حسين ماضي ـ القسم الثقافي
لوحة لـ حسين ماضي (من المعرض)

ليس محمد الروّاس مختلفاً في ذلك؛ إننا أمام لوحة ذات قوّة كلاسيكية في الواقع، تتزاوج في ذلك مع حداثة راهنة. سنرى فنّاناً يذهب إلى الأبعد في البراعة وفي التجديد، ويكون في الحالين متمكّناً إلى أعلى درجة. هكذا نحصل على لوحة جامعة بين أعمار وطرائق وأساليب، بل وأزمنة. ليس سمير الصايغ شاعراً مهمّاً فحسب، إنه الناقد التشكيلي الذي يحقّق نظرته إلى الفن في لوحة حروفية، يمكن للخطّ وللأبجدية فيها أن يبتكرا، وأن يقترحا راهنية وحداثة لفنٍّ بهذه العراقة.

ليست المفاجأة في حضور هذا الثلاثي في معرض قلّما يجتمع فيه أشخاص بهذا القدر، وقلّما يستحضر كباراً بهذا المستوى. المفاجأة أنّ أسماء كهذه تغامر، بل وتبادر إلى تجربة أُولى في بابها، وبِنْت يومها وساعتها. سيجازف ثمانينيّون وسبعينيّون بتجربة تنتمي إلى الكومبيوتر وإلى التكنولوجيا الحديثة. اختار حسين ماضي ومحمد الروّاس لوحات هي في الأغلب من ماضيهما، كذلك عاد سمير الصايغ إلى أعمال سابقة، وارتجل إلى جانبها عملاً ابنَ يومه وساعته.

أعمالٌ أعاد الفنانون ابتكارها انطلاقاً من طباعة رقمية

هذه الأعمال قُيّض لها أن تتجدّد، وأن يُعاد ابتكارها بقدرة الكومبيوتر. أُسند إلى الكومبيوتر أن يعيد إنتاج لوحات ماضية بعضها من أوائل أعمال الفنان، ليس تماماً كما هي، بل بأحجام تقلّ أو تزيد كثيراً أو قليلاً عن الأصل. الأصل مع ذلك يبقى بفضل أحبار عالية في الجودة وقادرة على استعادة دقيقة لألوان الأصل. ليست استعادة فحسب، إنها إعادة تأليف وإعادة تلوين. اللوحة ذاتها من سابق ماضي والروّاس بشكل خاص، يعاد استئنافها مرّات قد تصل إلى العشرة، وفي كلّ مرّة بلون آخر جديد.

اللوحة نفسها تتحوّل هكذا إلى لوحات، وحين تستقلّ كلّ لوحة بلون خاص، فلا مشاحة في أن تكون جديدة. هكذا يكون للوحة تاريخان وعمران، إنها من تاريخ تأليفها الأوّل، لكنها أيضاً من تاريخ تأليفها الثاني. لقد كانت لها هكذا حياتان، واستحقّت على ذلك توقيعين وزمنين. هي في البداية بنتُ فنّانها. لكنها في المرّة الثانية بنت فنانها وإلى جانبه الكومبيوتر والتقنيات الحديثة. ليست هذه المرّة الأولى التي يحصل فيها ذلك، لا بد أنّ لذلك سابقته، يمكننا أن نتذكر هنا كيف أنّ وارهول كان يؤلّف عن طريق المطبعة، هكذا كانت صورة لمارلين مونرو أو لماو تسي تونغ يعاد طبعها وتلوينها تِبعاً لاقتراحات وارهول، التي كانت المطبعة تتلقّاها وتنوب عنه فيها وتؤلّف مكانه.

الصورة
سمير صايغ ـ القسم الثقافي
لوحة لـ سمير صايغ (من المعرض)

في هذه المغامرة لا يتساوى الثلاثة. كلّ ما فعله سمير الصايغ، على سبيل المثال، هو أنّه خطّ كلمة "حبّ" على ورقة، وبفضل الكومبيوتر استُعيدت الكلمة المخطوطة في عدد كبير من اللوحات، وبألوان تتعدّد من لوحة إلى أخرى. بقيت أعمال سمير الصايغ المخطوطة في مقدمة المعرض، أي في الحيّز الذي هو عبارة عن مدخل المعرض وخلفيّته.

كانت كلمة "حبّ" تكاد ترقص على الجدار بشكلها المتحرّك وألوانها العديدة في لوحات ملأت الجدار. كانت كلاماً وأبجدية على مدخل المعرض الذي هو أشكالٌ وصور. لا تبدو الكتابة على الجدار الذي يحجز بين المعرض وخارجه في غير محلّها. إنّها كتابة، على ما يبدو لأوّل وهلة، هي غلاف المعرض. إنّها الغلاف نفسُه، بل هي، على نحو ما، عنوان المعرض. هكذا تغدو الكتابة موصولة بالمعرض، بل تبدو تماماً في محلها، وتبدو لها وظيفة في تأليف المعرض وفي تكوينه. فيها ومعها يتحوّل المعرض إلى تأليف وإلى ما يشبه الكتاب.

الصورة
محمد الرواس ـ القسم الثقافي
لوحة لـ محمد الرواس (من المعرض)

لوحات حسين ماضي التي هي من ماضيه، وهي هذه المرّة رسوم لنساء في الغالب، تبدو متلائمة إلى أبعد حدّ مع التلوين الجديد، الذي هو، في تعدّده وانتقاله من لوحة إلى لوحة، لا يبدو فقط بهيجاً، وإنما يبدو أيضاً احتفالياً ولعوباً. إننا هكذا أمام احتفال للّوحة وإحياء لها، بل وأمامها، وهي ترقص وتفيض مرحاً.

قد لا يكون الأمر نفسه في لوحات محمد الروّاس التي هي، في الأصل، تضيف إلى اللوحة موادَّ من الخارج، القصدير على سبيل المثال من بينها. هذه المواد هي الآن صور فقط، وكصور لم يعد لها الحضور نفسه ولا الغاية نفسها. لا بدّ أنّ اللوحة هكذا تنقص جانباً منها قد يكون أساسياً. مع ذلك، فإنّ تاريخ لوحات الروّاس، كما هو الأمر في لوحات حسين ماضي، الذي يعود أحياناً إلى سبعينيات القرن الماضي، يبدو في المعرض الحالي أكثر من تاريخ؛ إنّه نوع من احتفال، واللوحة المُعاد إنتاجها هكذا، تبدو كأنّها اكتسبت حياة جديدة، بل تبدو، خصوصاً في لوحات الروّاس المستعادة، درساً في الفن ولحظة مفصلية فيه.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون