"قُرب البحر" لعبد الرزاق قرنح: ملحمة زنجبارية

"قُرب البحر" لعبد الرزاق قرنح: ملحمة زنجبارية

21 اغسطس 2022
عبد الرزاق قرنح بعد حصوله على جائزة "نوبل"، لندن، 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 (Getty)
+ الخط -

"قُرب البحر" رواية عبد الرزاق قرنح في ترجمتها الفرنسية، تدور مثل روايته "جنّة" حول أفريقيا الزنجبارية. لكنّ "قرب البحر" تتناول ماضياً أقرب من الذي تتناوله "جنّة". إنه الماضي الاستعماري وما بعده، ماضي الديكتاتوريات التي تلتِ الاستعمار، في حين أنّ زمن "جنة" يعود إلى ماضٍ أقدم، ماضٍ على أبواب الاستعمار.

في كلّ الأحوال لا نزال في الماضي، لكنّ ماضي "قرب البحر" هو أكثر عضوية وتفاعُلاً وتاريخية، في حين أن ماضي "جنّة" الذي يرقى إلى زمن سلاطين القبائل، يدور في زمن بات فانتازياً، أو ما يقرب من ذلك، بحيث تبدو "جنّة" حكاية بعيدة، وبحيث أمكن ردّها، ولو بترميز بعيد، إلى سورة يوسف. إنها هكذا حكاية بَحتة، في حين أن زمن "قرب من البحر"، يحافظ على تاريخيته، ويستمدّ ديناميته وتفاعله منها.

هكذا نقرأ الرواية ونحن نشعر أنها أكثر من حكاية؛ إنها ذات بناء أكثر تسلسلاً، وأكثر تداخُلاً، وأكثر كثافة وقوّة سرديّة وتدويراً وعضوية وزمنية، بحيث يمكن القول إنها تتقدّم على "جنّة"، وتملك سردية أكثف وأقوى وأوطد بناءً. يمكن القول إن "قرب البحر" قد تكون، من هذه الناحية، تحفةَ عبد الرزاق قرنح، أو من تُحفه.

رواية قرنح هذه ذات سياقين سرديّين، كلٌّ منهما ينتمي إلى راوٍ مختلف، والراويان يجمعهما، لأوّل وهلة، أنّهما قد غادرا بلدهما (زنجبار) لاجئَين إلى إنكلترا. الأول الذي تَسمّى فيها "لطيف"، نعثر في سرده على ذِكرٍ للثاني. لكنّنا، بعد ذلك ولدى سرد الثاني، سنجد أنّ الاثنين عاشا في بلدهما حياتَين مُتداخلتين ومتّصلتين، وها هما يلتقيان في إنكلترا، ليروي كلٌّ حكايته، التي انقضى جلُّها في بلده، من جهته وذاكرته. الحكايتان - كما ستظهران - حكايةٌ واحدة تتخطّى كُلّاً منهما إلى فضاء جامع يتعدّاهما، وإلى تاريخ واجتماع وواقع مشترك.

عناقيد من القصص متّصلة بواقع أفريقيا ما بعد الاستعمار

لطيف، كما تَسمّى في إنكلترا، عاش في زنجبار في عائلة أبرز ما فيها أمّ جميلة ذات حياة حرّة وعلاقاتٍ بأشخاص نافِذِين، أحدُهم وزير يغدو عشيقَها. زوجها ليس من وزنها وهو مسلم يعاقر الخمر، لكنه لا يلبث أن يتديّن ويغدو درويشاً. صديقه الأقرب يخونه مع زوجتِه وابنه، ولا يلبث، وهو الذي يساكن العائلة، أن يورّطها في دَينٍ ينتهي بأن ينتزع منها المَدِين بيتها، الأمر الذي يؤدّي بالأب الى نوع من الهُواس. أمّا الشخص الذي استولى على البيت فهو صالح عمر، الرجل الذي يلحق الراوية الأوّل إلى إنكلترا، حاملاً اسماً زائفاً هو اسم الأب الذي سلبه بيته وسيكون في الرواية الراويَ الثاني. 

الراوي الأوّل سيروي كيف غادر أفريقيا إلى ألمانيا وبعدها إلى إنكلترا، حيث علم بأن الرَّجُل الذي سلبه بيته صار في إنكلترا متسمّياً باسم أبيه. صالح عمر، إذاً، هو الراوي الثاني الذي يروي من جهته كيف حاول أن يجد سبيلاً إلى التفاهم مع الأب، لإيجاد طريقةٍ تُجنّبه سلب بيته، لكن الأب الذي استبدّ به الهُواس من هذه المسألة لم يقبل. أمّا الأم، عشيقة الوزير، فلا تلبث بفضل عشيقها أن تُودي به إلى السجن، حيث قضى هناك أعواماً طوالاً، وحين أُطلق سراحُه وعاد إلى بيته، بعد أن كانت زوجته قد ماتت وعائلته اختفت.

هذان الخطّان السرديان ينطويان على مبانٍ متراكبة، من قصصٍ يخرج بعضُها من الآخر. قد نفهم من هنا ماذا تعني عودة قرنح، في روايته غير مرّة، إلى "ألف ليلة وليلة". في رواية قرنح ما يُعيد، ولو من بعيد، إلى "ألف ليلة وليلة". في سرد الروايتين نجد أنفسنا أمام هذا التناسُل للروايات. نجد أنفسنا هكذا أمام استطرادات روائية، تعيدنا دائماً إلى الخلف، حيث تخرج قصّة جديدة، هي بدورها لا تلبث أن ترتدّ إلى قصص أخرى.

إنّنا هنا أمام حلقات متناسلة متوالدة، أمام عناقيد من القصص، أمام نوع من "ألف ليلة وليلة" زنجبارية راهنة، ومتّصلة بالواقع الزنجباري وتاريخه الراهن. زنجبار هي هكذا بتاريخها الحالي بل تنزانيا أيضاً وأفريقيا ما بعد الاستعمار. نحن أمام واقع ينبني مع واقعيته الشديدة المتفاقمة، في نوع من بناء قصصي، له مراجعه في التراث العربي، بقدرة لافتة على موازاة الواقع والتاريخ. مع أسلوب حكائي يوغل في عضويّته، وفي مراكمة القصص بعضها فوق بعض، وتوليده منها حكاية بعد حكاية. نتذكّر هنا "ألف ليلة وليلة"، وقد نتذكّر غيرها في رواية توحي تعقيداتُها وتوالداتها بملحمة كاملة.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون