نسخة معاصرة من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" (4)

نسخة معاصرة من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" (4)

13 أكتوبر 2018
(رسم: عماد حجاج)
+ الخط -

من مشاهير الحمقى والمغفلين رجل يدعى (أبو محمد جامع الصيدلاني) وردته رسالة من علي بن معاذ، فقرأها، ووضعها جانباً، ثم كتب له رسالة جوابية وضع على مغلفها العنوان التالي: إلى الذي كَتَبَ إليَّ!

وركب ذات مرة في مركب، وحينما طالبه الملاح بالأجر أعطاه قطعة نقدية، فقال الملاح: هذه لا تكفي، هات غيرها! فقال له جامع:
- ليجعلني الله بأربع قوائم، مثلك، إن أنا أعطيتك غير هذه!
وذات مرة ذهب جامع الصيدلاني إلى السوق ليشتري لأحد أبنائه حذاء، فقال له البائع:
- كم عمر ابنك هذا؟
قال: وُلِدَ مع بداية العنب الداراني، وهو أصغر من أخيه محمد بشهرين ونصف سنة!

فصل: خاص بابن الجصاص

وثمة أحمق شهير يدعى أبا عبد بن الجصاص.
من أطرف قصصه أنه دخل على الوزير ابن الفرات الخاقاني، وكان معه بطيخة. وكان قد بيت النية على أن يُقَدِّم البطيخة للوزير، ثم يبصق في نهر دجلة، ولكنه بصق في وجه الوزير ورمى البطيخة في نهر دجلة!

ارتاع الوزير، وارتبك ابن الجصاص وشرع يعتذر قائلاً: والله العظيم يا سيدي لقد أخطأت وغلطت، فقد كنت أنوي أن أبصق في وجهك وأرمي البطيخة في نهر دجلة!!!

وكان لابن الجصاص دعاء شهير يقول فيه:
- نعوذ بالله من نعمه، ونتوب إليه من إحسانه، ونستقيله من عافيته، ونسأله عوائقَ الأمور.. حسبي الله وأنبياؤه والملائكة الكرام!

ومن دعائه: اللهم أدخلنا في بَرَكة القصور على قبورهم، والبيع والثغور والكنائس، سبحان الله، قبل سبحان الله، بعد سبحان الله!

ونظر ابن الجصاص يوماً في المرآة فقال: اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض الوجوه، وسودها يوم تسود الوجوه!

والتفت إلى رجل كان معه وقال له: أترى لحيتي طالت؟
قال الرجل: أتسألني والمرآة في يدك؟
قال ابن الجصاص: صدقتَ، ولكن الحاضرَ يرى ما لا يراه الغائب!

وذهب مرة ليعزي صديقه أبا إسحاق ابن الزَجَّاج الذي توفيت والدته، وإذ دخل مجلس العزاء وجده مزدحماً بالناس من الرؤساء والكتاب والأعيان، فتضاحك وقال:
- الحمد لله، قد سَرَّني والله ذلك يا أبا إسحاق.
فدهش ابن الزجاج والحاضرون، وقال أحدهم: ويحك يا هذا، كيف سرك ما غَمَّه وغمنا جميعاً؟
فقال: بلغني أن أبا إسحاق هو الذي مات، وقد جئت أعزيه فوجدته حياً، وعرفت أن والدته هي التي ماتت، فسررت.
فضحك الحاضرون جميعاً، وزال الغم عنهم!

وأراد مرة أن يُقَبِّل رأس أحد الوزراء، فاستوقفه أحدهم وسأله: على أي شيء تقبله؟ أفيه ذهب؟
فقال: والله لو كان فيه (.. كلمة بذيئة) لَقَبَّلْتُه!

إن الأمثلة التي يوردها ابن الجوزي في هذا الكتاب عن ابن الجصاص الأحمق كثيرة جداً، وقد ذكرنا لكم أطرفَها وأكثرها قابلية للفهم. بيد أن بعض الرواة ذهبوا إلى أن ابن الجصاص لم يكن أحمقَ، بل كان متحامقاً يتخذ من الحُمق وسيلة لاتقاء شر الحكام الذين كان يجالسهم.

ولإثبات ذلك يروي عنه "علي التنوخي" قصة عجيبة يقول فيها إن أبا الحسن ابن الفرات حينما تولى الوزارةَ حَرَّضَ عُمَّالَه على ابن الجصاص، وأمرهم بأن يفرضوا عليه المزيد من الضرائب والإتاوات، وفوق هذا كان "ابنُ الفرات" يستهزئ به في مجلسه.

وكان ابن الجصاص يمتلك سبعة آلاف دينار، وجواهرَ كثيرة، وقد سهر الليل بطوله وهو يفكر في طريقة يأمن فيها شر ابن الفرات وعماله، وفي الهزيع الأخير من الليل اهتدى إلى رأي أعجبه، فقام من توه وذهب إلى دار الوزير وشرع يقرع الأبواب، فخرج له البَوَّابون قائلين:
- مَنْ بالباب؟
فقال: أنا ابن الجصاص.
قالوا: هذا ليس بوقت زيارة، والوزير نائم.
قال: قولوا لحُجابه إني قد أتيت إليه في أمر مهم.
خرج إليه أحد الحجاب، وقال له: انتظر ساعة ويصحو الوزير.
قال: الأمر أخطر مما تتصورون.

وبعد وقت قصير أدخلوه إلى الوزير في مرقده، فوجده جالساً على سرير وحوله الكثير من الفراشين والخدم، وكان مرتاعاً فقد ظن أن حادثة حدثت وأن ابن الجصاص يحمل إليه رسالة من الخليفة، فقام وقال له:
- ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ هل حدثت حادثة، أو معك رسالة من الخليفة؟
فقال ابن الجصاص: لا هذه ولا تلك، بل جئت في أمر يخصني ويخصك، ولا تَصِحُّ المفاوضة فيه إلا على خلوة.
فقال الوزير لحجابه وفراشيه وغلمانه: انصرفوا.
وقال لابن الجصاص: هات ما عندك.

فقال: لعمري أيها الوزير أني قد اجتهدتُ في إصلاحك بكل ما قدرتُ عليه، وأما أنت فتستقصدُني، وتسعى إلى هلاكي وزوال نعمتي، وبهذا كأنك تُطلع روحي، ويا روح ما بعدك روح! هل يوجد كائن أضعف من القِطّ؟ إذا حاصر البقالُ القطَّ في زاوية دكانه ولزَّ عليه في زاوية يريد أن يخنقه تراه وثبَ على البقال فخدش وجهه وجسمه ومزق ثيابَه طالباً الحياة بكل ما أوتي من عزم.

وحالي معك كحال القط، ولستُ أقل منه بطشاً، فإن لم تَجنح للصلح معي أقسم أني سأقصدُ الخليفة، بعد أن أُحَوِّلَ له من خزائني ألفي ألف دينار، عداً ونقداً، وأقول له: اعزلْ ابنَ الفرات واستوزر بدلاً منه.. فإذا سألني أن أذكر له اسم رجل يستوزره سأذكر له رجلاً مقبولاً ذا لسان عذب وخط حسن، وربما اقترحتُ عليه أحدَ كتابك، وهو، حينما يرى المال، لن يفرق بينك وبين كاتبك، والكاتب بدوره سينظر إليَّ نظرة الرجلِ الصغيرِ إلى رجلٍ رَفَعَهُ وجعله وزيراً، فيأخذ بيدي ويطلب مشورتي، ووقتها سأقترح عليه أن يُفرغ جام غضبه وعذابه عليك، ويغرمك بألفي ألف الدينار التي بَذَلْتُها، فتصبح، وأنت الغني، فقيراً، ويرجع المال إلي، فلا يذهب مني شيء، وأكون قد أهلكت عدوي، وشفيت غيظي، وصنت نعمتي، وارتفع مقامي عند الناس لأنني أكون إنما أقلتُ وزيراً وعينتُ وزيراً، وهذا ليس بالسهل.

سمع ابن الفرات هذا الكلام الخطير من ابن الجصاص المشهور بحمقه، فدهش وقال له:
- يا عدو الله، هل تُقدم على هذا بالفعل؟
قال ابن الجصاص: لست عدو الله، بل إن (عدو الله) هو الذي أَرَّقَني وأتعبني وأراد هلاكي وفقري.
قال الوزير: فماذا ترى أن نفعل؟
قال ابن الجصاص: تحلف لي الأيمان الصادقة على أنك ستكون معي، في صغير أمري وكبيره، لا تفرض علي ضريبة، ولا تقف في وجه معاملاتي، ولا تضمر لي سوءاً في الظاهر ولا في الباطن.
قال الوزير: وتحلف لي أنت أيضاً بمثل هذه الأيمان على حسن النية والطاعة والمؤازرة؟
قال: أحلف.
قال: لعنك الله، فما أنت إلا إبليسٌ لعين، والله لقد سحرتني.
واستدعى مَنْ يُحضر له رقعة وقلماً وعمل من القَسَم نسختين، فحلف هو أولاً، ثم حلف ابن الجصاص، ثم قال له:
- لقد عظمت في نفسي وخففت ثقلاً عني.
ونادى على غلمانه وحجابه وأمرهم بأن يرافقوا ابن الجصاص حتى الباب ففعلوا، وفي اليوم التالي زارَ مجلسه فوجد فيه ما وجد من الحفاوة والتقدير.

(ملاحظة: كما ترون، فهذه القصة تتباين مع رسم شخصية ابن الجصاص الأحمق، ولكنها قصة طريفة بحد ذاتها، وممتعة، وهذا ليس تناقضاً بقدر ما هو براعة وشجاعة من المؤلف ابن الجوزي).

دلالات

المساهمون