الخوف من أن نُلمس

الخوف من أن نُلمس

19 سبتمبر 2015
40 ألف منحوتة، أنتوني غورملي/ بريطانيا
+ الخط -
لا شيء يخيف المرء أكثر من أن يلمسه المجهول. إنه يريد أن يرى ما الذي يقترب منه، وأن يكون قادراً على تمييزه، أو على الأقل تصنيفه. المرء يميل دائماً إلى تجنّب التلامس مع أي شيء غريب. في الظلام، يتفاقم الخوف من لمسة غير متوقّعة إلى الرعب. الملابس لا تكفي للحماية؛ من السهل تمزيقها وثقبها وصولاً إلى العاري، الأملس، الأعزل؛ لحم الضحية.

كل المسافات التي وضعها الناس حولهم أملاها عليهم هذا الخوف. يحبسون أنفسهم في منازل لا يمكن لأحد أن يدخلها، وفيها فقط يشعرون بشيء من الحماية. الخوف من اللصوص ليس فقط الخوف من أن تتمّ سرقتنا، بل إنه الخوف من قبضة مفاجئة وغير متوقّعة تخرج من الظلام.

الاشمئزاز من أن نُلمس يظلّ معنا ونحن بين الناس؛ الطريقة التي نتحرّك بها في شارع مزدحم المطاعم والقطارات والحافلات محكومة بهذا الشعور. حتى ونحن نقف بمحاذاتهم قادرين على تفحّصهم عن قرب، نتحاشى أي اتصال فعلي معهم قدر الإمكان. وإن لم نحاول، فهذا لأننا نشعر بالتفاعل مع شخص ما، عند ذلك نحن من نقوم بالمبادرة.

السرعة التي بها نقدّم الاعتذار عن تلامس غير مقصود، التوتّر الذي ننتظر به هذا الاعتذار، رد فعلنا العنيف، وأحياناً الجسدي حين لا يصل. النفور والكره الذي نشعر به نحو المعتدي، حتى حين لا نكون متأكدين من شخصه.

كل هذا الميل للانزياح والتحاشي وردّ الفعل الحساس بكثافة نحو أية لمسة من غريب، يُثبت أننا نتعامل هنا مع نزعة إنسانية طبيعية دفينة بقدر ما هي يقظة؛ شيء لا يغادر المرء ما أن يؤسّس حدود شخصيته، حتى وهو نائم، أي أبعد ما يكون عن حراسته لذاته يمكن للمسة أن تقلقه بسهولة.

في الحشود فقط، يمكن للمرء أن يتحرّر من الخوف من أن يُلمس. هذه هي الحالة الوحيدة التي يتحوّل فيها الخوف إلى عكسه. الحشد الذي يحتاجه هو الحشد الكثيف، حيث الجسد يضغطه جسد. حشد تكون بنيته المادية كثيفة ومتراصّة حتى لا يعود أحد يعرف جسد من يضغط على من. ما أن يُسلم المرء نفسه للحشد، حتى لا يعود يخشى أن يُلمس. على نحو مثالي، يتساوى الجميع، لا فروقات يحسب حسابها، حتى تلك المتعلّقة بالجنس.

الإنسان الذي يتدافع معه، هو نفسه، يشعر به كما يشعر بنفسه. وفجأة، يبدو كما لو أن كل شيء يحدث في جسم واحد. ربما لهذا تسعى الحشود لأن تكون مغلقة على نفسها، تريد تحرير الأفراد تماماً من الخوف من اللمس. كلّما تدافع الناس وتراصوا بعنف، كلما أمكنك التأكد أنهم لا يخافون بعضهم البعض. هذا النقيض للخوف من اللمس ينتمي إلى طبيعة الحشود. الشعور بالتخفّف في أعلى درجاته يحدث في أكثر الحشود ضخامة.

القطعة الأولى من كتاب "حشود وسلطة"

* ترجمة: نوال العلي

دلالات

المساهمون