لعنة أن تكون جماهيرياً

لعنة أن تكون جماهيرياً

07 مايو 2020
+ الخط -
للأسف، المشكلة فيك أنت، ليست في مطربك الذي كنت تعتبره صوتك، ولا في شاعرك الذي كنت تحسبه لسان حالك، ولا في كاتبك الذي كنت تراه بوصلتك، المشكلة في أنك تعيش في القرن الحادي والعشرين، لكنك لا زلت تحتاج إلى أحد يكون لك صوتاً ولسان حال وبوصلة.

صدقني، وليس لك عليّ حلفان، كلما اكتشفت هذه الحقيقة مبكراً، كلما نجوت من خسائر فادحة تعرض لها جيلي وغيره من الأجيال التي تربت على أن تخلط بين الفنان وفنه والكاتب وكتابته والشاعر وشعره، وعندما حانت الساعة التي تجعل كل فنان أو كاتب أو شاعر يبحث لنفسه عن جمهور جديد غير الذي "عاش عليه" سنين طويلة، شعرنا بالخيانة والخديعة، فأخذنا نثأر لأنفسنا بإتهامهم بأنهم خانوا أنفسهم وباعوها بالرخيص، لأننا لم نكن مستعدين لمواجهة أنفسنا بحقيقة بسيطة ومرة، هي أننا لم نعد نلزمهم كثيراً بعد أن تغيرت الأحوال، لأننا ببساطة لم يعد لدينا النفوذ الوحيد الذي كنا نمتلكه عليهم: نفوذ أننا الجمهور الأكبر أو فلنقل الجمهور الأهم، ولأن أغلب شعرائنا وكتابنا وفنانينا تعودوا على أن يعيشوا دائماً بصحبة جماهير عريضة تدعمهم وتحبهم وتدللهم، كان لا بد لهم أن يستمروا بصحبة جماهير عريضة تتخذهم صوتها ولسان حالها وبوصلتها، حتى لو كانت تؤمن بعكس ما آمنوا به وعاشوا من أجله. وليس من السهل أبداً أن تعيش بدون جمهور بعد أن عشت عمرك كله كذلك.

هي قصة حزينة، وفرط تكرارها وتشابه تفاصيلها يزيدها حزناً، في البدء تكون الكلمة، يكون اللحن، تكون الفكرة، يكون كل ذلك وحده الشغل الشاغل والهم المؤرق، ويكون لدى الكاتب والفنان استعداد لأن يفعل كل شيئ من أجل أن يقول كلمته لتكون كما هي متفردة لا تشبه أحداً، ودون أن يتدخل في صنعها أحد، حتى لو دفع ثمن ذلك غالياً، وحتى لو لم يهتم بما يقوله أحد من أصحاب النفوذ والحظوة، مراهناً على مستقبل مجهول سيأتي فيه من يحب تفرده وتمرده، ودائما ما يكسب الرهان، لأن ذلك التفرد والتمرد يجد دائماً من يحبه، ومن هنا تزداد ثقة الكاتب والفنان ويزداد تمسكه بتفرده وتمرده، فيزداد حب جمهوره الناشئ له، ويكبر شيئاً فشيئاً.


لكن الحب فتّاك كما تعلم، ولا ينجو منه أحد بسهولة، وأخطر ما في الحب أن تقع في هوى الإحساس بأنك محبوب، عندها سيصبح ذلك الشعور محركك في كل ما تفعل، لتبدأ في التصرف كصوت لمن تحبهم، للناس، للمجتمع، للشعب، تتصرف كشاعر للقبيلة بالمعنى المعاصر، كبوصلة لحيارى اللحظة وكل لحظة، كمعبر عن روح جماعية ما بدلاً من التعبير عن ما يدور بداخلك أنت وحدك، عندها ستقل فرادتك لكن قدرتك على عزف تنويعات مختلفة على ما جلب حب الناس لك سيمكنك من التماسك أطول فترة ممكنة، ستساعدك الموهبة إذا كانت عريضة، وسيساعدك أيضاً أن تشتغل كثيراً على نفسك وتكون جاداً معها، لكنك إن طال الوقت أو قصر، ولأن الدنيا غدارة ولا تدوم على حال، ستجرب يوماً ما إحساس الفزع، حين تجد ذلك الحب يقل لمجرد أنك أبديت رأياً صادماً لمحبيك، أو اتخذت موقفاً مزعجاً لعشاقك، وعندها ستكون كل خياراتك صعبة، إما أن تتراجع لتظل معبراً عن "الناس" وصوتاً للشعب وكاتباً للجماهير، أو تصر على تفردك في الموقف أو الرؤية، فتجرب مشاعر سلبية لم تكن تظن وجودها أصلاً وربما لا يكون لك بها طاقة، وحين تكتشف أن الشعب نفسه مكون من شعوب مختلفة، وأنك يمكن أن تكون صوتاً لشعب مختلف ولسان حال ناس آخرين وكاتباً لجماهير أخرى، خصوصاً أن هؤلاء سيقبلون تغير موقفك، بل سيثمنونه ويحبونه، وسيتعاملون معك بوصفك الرجل الناضج الوطني الذي تغير لكي يبقى الوطن، لأن الوطن باقٍ وفوق الجميع.

أعرف أن التفسير الذي أقوله لك محبط، لأنه لا يرضي غضبك ممن تصدمك مواقفهم من الذين تصفهم دائماً بأنهم "شعراؤك وفنانوك وكتابك"، تبدو توصيفات واضحة مثل الخيانة والبيع و"التعريص" أقرب وأسهل، لأنها أكثر فشّاً لغلك وحزنك، وكم كنت أتمنى أن يكون هناك خيانة بالمعنى الواضح المباشر، لكي أتحرر من أثقال الحزن على بعض هؤلاء، وأستبدلها ببهجة الإدانة، لكن صدقني لو راجعت نفسك لوجدت أن كثيراً منهم لا يمكن أن يكون قد استفاد بالمعنى المادي المباشر من مواقفه الأخيرة، ولو دققت في التفاصيل لن تجد صوراً نمطية كالتي تم ابتذالها من فرط تكرارها، مثل "الظرف المتخم والمبلغ المهول والسيديهات والشيئ الفلاني والكليبات الفاضحة اللازمة للإبتزاز"، فلو كان الأمر كذلك فعلاً، لسهل عليك إذا كنت رقيق القلب أن تتعاطف مع ضعف بشري كلنا معرضون له، ولسهل عليك إذا كان قلبك "جامداً" أن تشعر بلذة الاحتقار لهؤلاء الذين لم يختاروا منذ البداية أن يكونوا منحازين فقط للفن والأدب والكتابة بشكل مجرد، دون أن يرفعوا طيلة الوقت شعارات ومبادئ و"كلام كبير"، لتكون طريقهم إلى النجاح والكسب، ثم عندما لم يعد يجيئ من وراءها نجاح ولا مكسب، قفزوا سراعاً إلى أقرب سفينة غير مهددة بالغرق.

صدقني، ليت الأمر كان بهذه البساطة في أغلب الأحوال، فالأصعب على النفس أن يقفز هؤلاء الذين كنت تظن فيهم الحكمة، إلى سفينة يبدو لكل ذي عينين أنها غارقة لا محالة ببركات ربانها المضطرب نفسياً وركابها الذين لا يكفون عن خرق كل شبر فيها كل لحظة، لكنهم اختاروا أن يقفزوا إليها هاجرين مبادئهم وضمائرهم، لمجرد أنها سفينة الشعب، خاصة أن مصطلح "الشعب" في تفكير هؤلاء اتضح أنه يرتبط بالجمع البشري الأكثر عدداً والأعلى صوتاً والأكثر حدة، حتى لو كان يؤمن بمبادئ تختلف مع كل ما عاشوا من أجله، وبأفكار لا علاقة لها بما غنّوه وكتبوه وعبروا عنه طيلة عمرهم.

لكي تتأكد، حاول أن تقترب من أحدهم لتذكره بأن ما يهلل من أجله الآن بمنتهى الفجاجة، يناقض أبسط مبادئ الإنسانية التي لا يعقل أن يدوس عليها أبداً شاعر أو فنان أو كاتب، قل لهم إننا لا نتحدث عن موقف سياسي يمكن أن يختلف فيه الناس كما شاؤوا، وإننا لسنا بصدد قائد أو سياسي يمكن أن يحبه البعض ويكرهه البعض الآخر، قل لهم إننا لا نتحدث عن اشخاص نخاصمهم، لأننا لا نطيق نحنحة حديثهم أو سحنة وجوههم، بل نخاصمهم ونعارضهم ونرفضهم لأنهم يهدرون حق الإنسان في ألا يفقد حياته وكرامته وأمانه، قل لهم إن مشكلتنا ليست مع شخص بطلهم المحبوب، مشكلتنا هي الحرية، هي العدالة، هي كرامة الإنسان، قل لهم إنهم لم يطرحوا أنفسهم من البداية كأناس يهدفون فقط للتسلية والإمتاع، لكنهم طرحوا أنفسهم بوصفهم راغبين في تحسين شروط الحياة والإختلاف مع السائد السيئ مع الحرص على التسلية والإمتاع في الوقت نفسه، وإلا لكنت احترمتهم لأنهم لم يدعوا لأنفسهم هدفاً سوى التسلية والإمتاع، وهي أمر ليس بالهيّن على أي حال.


أرجوك أن تجرب وأنت تقول كل ذلك أن تقرنه ببعض أشعارهم وأغانيهم وكتاباتهم المحفورة في وجدانك، وستندهش عندما تجد إنكاراً تاماً من هؤلاء لفكرة أنهم تنازلوا عن شيئ مما كتبوه أو تخلوا عنه، وستجد إصراراً منهم على أنهم لا يتخذون مواقفهم هذه إلا من أجل الشعب، وستسمع كلاماً من نوعية "إنتو مش حاسين بالناس.. انزلوا للناس واسألوهم وشوفوا هما عايشين فين.. الناس في وادي وانتو في وادي"، كلاماً كان يقال لهم أنفسهم عندما كانوا يعبرون عن مبادئ وأفكار من الطبيعي ألا تحظى بجماهيرية ساحقة في بلاد يمتلك السلطة فيها من لا يحاسبه أحد إذا قمع وقتل واضطهد من ينادي بهذه المبادئ والأفكار، وستجد نفسك متهماً من قبل أناس بنوا مجدهم على كونهم مختلفين ومتمردين، بأنك باختلافك وتمردك تعرقل سعي الناس للتطور والهدوء والاستقرار والاستيقاظ باكراً من أجل تدوير عجلة الإنتاج، ولن تشعر بأن أحداً من هؤلاء يتحدث بارتباك أو استحياء، بل على العكس ستجده يفتح جاعورته في وجهك شعراً أو نثراً أو غناءً، من ذلك النوع الذي يستهوي جمهوره العريض الجديد الذي أصبح يراه صوته ولسان حاله وبوصلته.

من حقك أن ترفض هذا التفسير لأنه لا يحقق لك فش الغل اللازم لاستمرار الحياة، لكن من حقك عليّ أيضاً ألا أتركك دون أن تحظى ببهجة تبدو صغيرة، لكنها تمثل ـ بالنسبة لي على الأقل ـ لحظة نصر مهمة، فليس عيباً أن تقر عين المرء منا برؤية انتصار ما على من هزموه. لا أدري إذا كان سيرضيك أن تدرك أن هؤلاء الذين غيّروا شروط التعاقد بينك وبينهم من طرفهم وحدهم، وخاصموا مبادئهم التي أحببتهم من أجلها، يتعرضون غالباً لعقوبة فتاكة دون أن يأخذوا بالهم من فتكها بهم، هي فقدانهم لتلك اللمسات الساحرة التي كانت تجعل لكل ما ينتجونه وقعاً خاصاً لديك.

إذا لم تصدقني أرجوك راجع ما أصبح يصدر عنهم من قصائد وأغاني ومقالات بل وحتى ما يقولونه من تصريحات وحوارات، وستذهل وأنت ترى ما أصابهم من تدهور مريع، لدرجة أنك لو نسبت إنتاجهم هذا إلى أسماء مجهولة وطلبت رأي الناس فيها، لرمى أغلبهم أصحابها بالفاحش من القول بسبب رداءة وركاكة وثقل ظل هذا الإنتاج، صحيح أن هذا الإنتاج الذي يصدرونه يلقى قبولاً مدهشاً لدى جمهورهم الجديد الذي سيحب كل ما يصدر عنهم، ليس بسبب عظمته الفنية، ولكن لأنه يدعم مواقف سلطوية منحطة، وصدوره عن أناس كان لديهم تاريخ طويل من معارضة السلطة، يجعل عبيد السلطة مطمئنين إلى صلابة مواقفهم المنحطة التي تهزأ بحرية الآخرين وكرامتهم، فهي مواقف منحطة يتخذها معهم الشاعر العظيم والمغني العظيم والكاتب العظيم، ولذلك لا ينشغل هؤلاء بالتقييم الفني لإبداع هؤلاء بقدر انشغالهم بنشره مصحوباً بشعار "مش دول بتوع الثورة.. ولا إنتو بتفهموا أحسن منهم هم كمان".

عندما يقول لك أحد ذلك متصوراً أنه يكايدك ويضايقك، أرجوك لا تضيع وقتك في مناقشته، بل الجأ إلى ما كنت تحبه قديماً لأبطاله الجدد من قصائد وأغاني وكتابات، واجعلها هي ردك، ليس عليه، بل على نفسك التي تشعر بالحزن والخديعة، ذكرها بما أحببته في هذا الشعر والغناء والكتابة، وصدقني لن تجد في كل ما أحببته في السابق لهؤلاء الكتاب والفنانين شيئاً يناقض القيم الإنسانية التي لا يتحقق التقدم والتغيير إلا بها، وتأمل كيف استطاعوا أن يعبروا عن ذلك بقدرة مدهشة على الإمتاع دون تقعر ولا تنظير ولا فذلكة ولا غلظة، وكيف فقدوا كل ذلك أو أغلبه الآن، فلا هم حافظوا على مبادئهم ولا هم حافظوا على تميزهم، ولا هم حافظوا عليك كمحب قديم.

ربما جعلك ذلك تشعر بالرضى ولو قليلاً، وربما وجدت نفسك مع الوقت تدرك أنك أحببت هؤلاء ليس لأنهم صوتك ولا لسان حالك ولا بوصلتك، بل لأنك حين كنت تبحث عن صوتك وعن لسان حالك وعن بوصلتك، أحببت منهم أشياء وأفكاراً ومعانٍ، وها أنت الآن تكره منهم أشياء وأفكاراً ومعانٍ، فتمسك بما أحببت، ولكن لا تركن إليه، بل راجعه وتأمله وفكر فيه وانقده وتحاور معه، وتذكر أنك لا زلت بحاجة إلى بذل كثير من الجهد، لتكون أنت وحدك صوت نفسك ولسان حالك وبوصلة طريقك.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.