رفقاً بنا أيها المُحلِّلون الاستراتيجيون

رفقاً بنا أيها المُحلِّلون الاستراتيجيون

10 مايو 2020
+ الخط -
كأن الله ابتلانا بكثرة المُحللين، وكثرة الفضائيات التي تستضيفهم، وكل ساعة نرى مُفكّراً ومُحللاً عسكرياً واستراتيجياً جديداً، حتى إن التحليل صار بُغية مَن لا عمل له، يعمل فيه بعضهم أفضل من بيع الخضار، أو (البليلة) على ناصية و(سوكة) أحد الشوارع.

يقول صديقي هذا الكلام مُتعجباً ويتابع:

يعني ليس كل أديب وصحافي يمكن أن يصبح مُحللاً، وليس كل عقيد في الجيش كانت لديه خبرة في (البلَو والقصعة، وتمرين تاسع خذْ وضعْ) أكثر من الأسلحة يستطيع أن يكون محللاً أيضاً، ويخرج على قنوات التلفزيون، ليحلّل ويتكلم عن الوضع العسكري والميداني، طبعاً بعد أن يلبس بدلة وربطة عنق (شيت الطلعة)، ويحسب نفسه (صفوت الزيات) أو (محمد حسنين هيكل)، وهو لا يجرؤ على وضع خطة لحياته اليومية، والتحدّث أمام زوجته.

كنت سابقاً أرى الضباط (برتبة عقيد)، بزيهم العسكري، وهم يحملون الحقيبة الأبهة في ذلك الزمان (السمسونايت)، وكأنهم يحملون الحقيبة التي فيها الزر النووي (شيت كيم جونغ أون)، ومرة تحقق حلمي ورأيت ما تحتويه هذه السمسونايت التي ينتعها هؤلاء الضباط، ويتباهون بها.

رأيت حقيبة صديقي ويا لهول ما رأيت فيها!.. (شحاطة ومشط وبدل داخلي وبيجاما وفرشاة ومعجون أسنان، وعدة لتلميع البوط وحلاقة الذقن، وقارورة عطر يبدو أنه لطشها من أحد العناصر)، وأنا أحسب أن فيها الزر النووي، والخطط الاستراتيجية، للقضاء على العدو المُتربص بنا خلف الحدود.

والله صديقي كلامي ليس حسداً ولا ضيقة عين، فأنا أغبطهم على ما هم فيه، صاروا أشهَر من نجوم السينما والدراما، لا يتعاملون إلا مع الأخضر الجميل وليس طبعاً (الأخضر الإبراهيمي).

يعني في اليوم الواحد يحصلون على مبلغ يعادل راتبي لمدة ثلاثة أشهر أو أكثر. ببضع إطلالات وبعض العبارات التي يرتكبون فيها مجازرَ لغوية يندى لها جبين سيبويه وزميله نفطويه. وغالباً ما يكون المحلل بعيداً آلاف الكيلو مترات عن أماكن الأحداث والاشتباكات، ويعرف بدقة مَن قُتل، ومَن أُصيب أكثر من القتلى والجرحى أنفسهم.

وهؤلاء المحللون الأشاوس الذين نكحل عيوننا بهم يتوزّعون بين ضفتي المعارضة والموالاة، إذا ما فتحت قنوات الموالاة يوماً للترفيه ترى إطلالتهم البهية، وقد يكون أحدهم صاحب (حمار الحضارات) أقصد حوار الحضارات، فقد أخطأ المحلل الأكاديمي العتيد في تقديمه لأمسية ذات يوم، حول حوار الحضارات، وقال (حمار بدلاً عن حوار)، وحسناً فعل بقوله وخطئه فقد أنعش الجمهور الذي أصابه الملل والضجر.

وقد يكون المحلل أحد الصحافيين النصابين لا يحلّل ولا يحرّم، عندما استلم إدارة جمعية سكنية، ونصب عليّ، بحجة نقل ملكية شقة لاسمي، وكلما رأيته أضم قبضة يدي، لأكسر الشاشة التي جعلته مقاوماً وممانعاً.

كل المحللين بكفة والمحلل القومجي والمفكر صاحب المربعات بكفة ثانية، حيث يترك المتلقي حائراً لا يفهم شيئاً من مربعاته التي اشتُهر بها، ويتمنى أن تُطبق تلك المربعات بأضلاعها الأربعة عليه، لترتاح منه البلاد والعباد، وترتاح المذيعة التي تحاوره، والتي لم تعد تعرف كيف تعود لبيتها بعد أن دوّخها بمربعاته ودوائره.

يتابع صديقي ويقول:
من كثرة ما أنا منزعج من أداء هؤلاء المحللين كتبت فيهم قصيدة غير عصماء، وغير عمودية، لأن عمود الشِّعر لا يمكن أن يحيط بعظمتهم، وما أريد قوله وفيها:

يتنطّعونَ لكلِّ أمرٍ، يُكثرونَ الجعْجعهْ
لا يعلمونَ بأنّهم في أيِّ بحرٍ
يُبحرونَ بحاجةٍ للأشرعهْ
لمْ يتركوا علماً ولا فنّاً، وإلّا حلّلُوا
فيهِ وحتّى الأوبئهْ
في السلمِ تلقاهمْ، وفي الحرب الضّروسِ
يُحللونَ ويعرفونَ سلاحَهم، من (دوشكا) لمُدرّعهْ
يتهافتونَ على الوسائلِ كلِّها، ويبدّلونَ لكلِّ شيءٍ
أو مقَام الأقنعهْ
هم في السياسةِ عالِمونَ، وفي احتباسِ حرارةٍ
أو ثقبِ أوزونٍ، وكورونا تراهم أولاً
لا ثانياً في المعْمعهْ
أو في الكياسةِ، أو تصاريفِ الزمانِ
وفي المشاكلِ كلِّها
هم أسُّها والمُعضلهْ.

ولهؤلاء المحللين، يا صديقي، نهفات ومواقف مضحكة عندما يتواصلون مع القنوات من بيوتهم عبر (السكايب)، ويبدعون في اختيار خلفية صورهم، من أعلام وشعارات وصور وكتب وخرائط.

يظهر المحلل الاستراتيجي من بيته، وهو بكامل أناقته، في قسمه العُلوي، لأننا لا نرى للأسف الشديد قسمه السفلي، وكأنه في مناسبة رفيعة، وتعجب من أناقة قسمه العلوي الذي تراه أيما إعجاب، ليسرّب ابن هذا المحلل صورة لأبيه، متحدثاً مع التلفزيون، وهو يرتدي (شورتاً أو كلسوناً)، بينما قسمه العلوي في أبهى حلة مع الجاكيت وربطة العنق.

تخيلْ صديقي لو أن الكاميرا نزلت خطأً وصورت قسمه السفلي، لكان تحليله أكثر روعة وجاذبية. لكن يُحسب له لا عليه أنه كان يتحدث من غرفة، فيها مكتب وطاولة، ولم يكن في مكان آخرَ، كالحمّام أو... أو المطبخ!

دلالات