عصر "الرُهابُقراطية"

عصر "الرُهابُقراطية"

20 ابريل 2020
+ الخط -
يعيش العالم حالة من الرعب منذ مطلع القرن العشرين وإلى حدود اليوم، فلا يكاد يخرج من أزمة حتى يقع في أخرى، ما إن انتهت الحربان العالميتان حتى ساد الخوف العالم- الغربي خاصة- وذلك لبروز الاتحاد السوفييتي كقوة عالمية منافسة للرأسمالية. الأمر الذي استدعى التصدي له وبشتى الطرق، ابتداءً بخطة مارشال ومروراً بالمكارثية.

وحين سقط هذا العدو تنفس العالم الغربي الصعداء، واعتقد العالم أن الخير كله آت لا محالة، حتى أن أحدهم ومن فرط الحماسة أصدر كتاباً سماه "نهاية التاريخ"، يعلن نجاح النموذج الأميركي/الغربي، وأقصد هنا الياباني الأميركي "فوكوياما".

وما إن انتهت الألفية الثانية وبدأت الألفية الثالثة حتى صدم العالم بأحداث 11 سبتمبر/أيلول، ولا شك أن الجميع يتذكر هذا اليوم، كيف لا وهو الذي بات حدثاً عظيماً كما يقول عنه جاك دريدا: "إن شيئاً رهيباً قد حدث في الحادي عشر من سبتمبر، ولكننا لا نعرف في الحقيقة ما هو.. قد أعطانا الانطباع أنه حدث عظيم". وتسأل العالم ما الذي حدث؟

الذي حدث باختصار شديد هو أن الولايات المتحدة وجدت لنفسها شبحاً جديداً تطارده وتجمع به شتات أرقامها الاقتصادية التي تتهاوى كل يوم، وتنقذ عملتها التي يفكر البعض في الاستغناء عنها. ها هو الذي حدث.


العدو الجديد، عدو عالم ما بعد الحرب الباردة أو "عالم دون أيديولوجيات"، ها هو ذا "الإسلام"، ها هو ذا العدو الذي تجب على العالم مواجهته. العدو الذي يهددنا كما فعل الاتحاد السوفييتي سابقاً. وهكذا انطلقت الحرب الصليبية الجديدة كما سماها بوش الابن والتي ستأتي كما سنرى على العالم بأسره لا على الإسلام فقط.

اليوم التاسع من إبريل/نيسان من عام 2003، وبالضبط مدينة تطوان، وأنا في الثانية عشرة من عمري أجلس في أحد المقاهي وعيناي كعيني أبي والجميع مشدودتان نحو التلفاز لا أحد أبعدهما عن شاشته، فالقنوات الإخبارية ترصد وعلى المباشر الهجوم الأميركي على العراق.

هجوم سبقته تصريحات أميركية وسبقته جولات وجولات من المفاوضات لا نعلم بالضبط موضوعها الحقيقي، رغم أن المشهور هو امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، وستكشف لنا الأيام أنه محض افتراء وغطاء شرعي للهجوم على العراق، فالهجوم كان مخططاً له قبل بداية ملف الأسلحة، وأوراقه وضعت على مكتب البيت الأبيض منذ سنين.

رغم صغر سني يومها إلا أني أحسست بالرعب واستشعرت خطورة ما حدث وما سيحدث، وكنت على يقين أن هذا الهجوم ليس سوى بداية لمسلسل هجومات لن تنتهي أطواره إلا بتخريب المنطقة وبإعادتها لعهد البداوة.

تساءلت كغيري: لماذا تفعل الولايات المتحدة هذا؟ وهذا التساؤل يدخل ضمن منظومة الحدث حسب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي يقول عن الأمر: "إن الحدث يكمن قبل كل شيء في ألا أفهم. فهو يتألف من أنني لا أفهم". إن الحدث- من جانب اللغة- إذن- يحيلنا على عدم الفهم، لهذا لم أستوعب الذي حدث ولا يمكن لأي مخلوق أن يفعل.

في كتابها "عقيدة الصدمة"، تقول نعومي كلاين: "عملية تحرير العراق: ما تبناه رواد عقيدة الصدمة هو كون الوقت الأفضل للاستثمار هو حين يكون الدم لا يزال على الأرض. كانوا مؤمنين بأن العراق سيباع في مزاد علني، بينما يكون أهله مصدومين بهول الدمار".

ما حدث حسب الكاتبة كان اقتلاعاً ومحواً للتاريخ العراقي وإعادة لتشكيله حسب الرغبة الأميركية، وقد كشفت أوراق ويكيليكس عن اختفاء 350 من علماء الذرة و80 ضابطاً من سلاح الطيران العراقي. ناهيك بآلاف القطع الأثرية النادرة. ومن غريب ما أرادت فعله القوات الأميركية هو نزعها لـ"الله أكبر" عن علم العراق، في إشارة واضحة إلى أن العراق ليس المستهدف بل الإسلام.

وببساطة شديدة، يمكننا القول إن العراق دُمر وعلى أنقاضه شيدت الفوضى، ومذّاك والعالم ليس بخير، وكيف يفعل والعراق مهد الحضارات عليل.

اليوم ومنذ مدة والعالم يعيش الرعب. رعب متمثل في فيروس كورونا، والذي أفقد العالم الكثير من قوته ومن ثقته واعتزازه بنفسه، وغير معالمه كما فعل هو بالعراق. وخاصة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، فهذا الأخير يعيش مأساة حقيقية، لم يجد معها الفرد الأوروبي أي حل، وباتت الوعود التي قطعها زعماؤه السياسيون على أنفسهم، وأقسموا له بأغلظ الإيمان بأن يضمنوا حمايته من كل الأخطار وأن يسهروا على راحته النفسية والجسدية، محض هراء، فهم لم يحموا أنفسهم حتى، فهذه "ميركل" تُوضع في الحجر الصحي بعد أن ثبت تعاملها مع شخص مصاب بفيروس كورونا.. فهو يفكر إذن ويسأل: كيف سيحميني من لم يحمِ نفسه؟

لقد أضحى الاتحاد الذي تتغنى به أوروبا منذ زمن قاب قوسين وأدنى من التفكك، وأكبر دليل على هذا دموع الرئيس الصربي والسرقات التي تتعرض لها الطائرات التي تحمل المعدات الطبية، وأضحى العالم على شفى حفرة من الانهيار. هذا هو العالم الذي تمت صناعته. صناعة أبطاله الذين يقاتلون بالنيابة عن (العالم) وأشراره الذين لا ينتهون أبداً، وهذا هو عصر "الرُهابُقراطية" كما سماه المهدي المنجرة رحمه الله.

دلالات