إنها التفاصيل

07 يناير 2020
+ الخط -
يتبادر إلى الذهن سؤال افتراضي، من الأقدر على التحكم في مشاعره ووضوح العلاقات خلال بيئات العمل المختلطة، الرجل أم المرأة؟

يثبت العلم والتجربة عدم تميز جنس عن الآخر في ذلك، الذي يقرر القدرة على تقديم ميزان العقل في عواطفنا وتعاملنا هو الخبرة والوعي بالظروف المحيطة للحالة نفسها، لا نستطيع وضع قاعدة، لكننا نسمع شكاوى النساء أكثر، لما يسود مجتمعنا من تنافي الرجولة مع البوح بالمشاعر وتجارب الخذلان.

في مجتمعنا؛ أنجزت المرأة من العلم والاكتفاء ما لا يقل عن المرأة الغربية، إلا أن كثيرات رغم قوتهن وتقدمهن يعشن تجارب سيئة، تكتفي بالألم وتصبه على من حولها، فتكون عصبية أو منطوية وضعيفة الشخصية، أو تخوض علاقات أخرى فاشلة أو يصبح تعاملها شرساً وعنيفاً مع غيرها من النساء، وتتعايش مع هذه الحال!

في الغرب المرأة تستطيع التعبير عن ألمها والبحث عن علاج له دون خوف، تستطيع البدء من جديد، واختيار طريق لحياتها، يمكنها الاستعانة بطبيب نفسي، وتخضع لعلاج سلوكي وأحيانا دوائي يساعدها على تجاوز الصدمة، فعلى سبيل المثال عندما ترتبط المرأة برجل إذا مرضت العلاقة ولم تستمر بسهولة تامة تعترف وتقر بفشلها، أمّا في مجتمعاتنا النساء يتلونّ مجبرات بدافع التربية المشوهة، وبحجة الصبر من أجل أبنائهن، بالإضافة إلى صعوبة الأوضاع الاقتصادية التي قد تتركها بحاجة إلى معيل، وتضطر للاستمرار مستنزفة نفسها وقوتها.


تعمل المرأة في مجتمعنا على الاكتفاء بنفسها، ولكن هذا بعيد عن الواقع، فالأجور أدنى من مستوى الكفاءة، وأيضاً قوانين العمل غير مفعلة بالشكل المطلوب في القطاع الخاص لتخدم مصلحة المرأة العاملة، ومن ناحية أخرى تعامل المرأة بتمييز في كثير من مواقع العمل ويتجاوزها صاحب العمل في كثير من الأحيان لأنها الطرف الأضعف.

يفتقر معظم بيئات العمل إلى المهنية، إذا عملت المرأة في مكان تختلط به بالرجال فتلزمها ثقة عالية بنفسها ووضوح لأهدافها، فبعض زملائها يسقط نظرته الشخصية في عمل المرأة عليها بعيداً عن مهنية العمل، وكلما أتيحت له الفرصة يقول: أنا لا أقبل أن تكون زوجتي موظفة! إذا لماذا تعمل أنت في بيئة مختلطة، فإذا كان المبدأ عدم الاختلاط فلا تختلط أنت كذلك، فلا يوجد عندك غيرة على نسائك أكثر من بقية الرجال الذين نساؤهم موظفات.

قابلت ذات مرة شخصاً في شركة، ومن ضمن الأسئلة التي سألني إياها: لماذا تريدين العمل؟ فأنا أرى أن البيت هو أفضل مكان للمرأة، وكانت تجلس إلى جانبه زميلته التي امتقع وجهها فهي زوجة وأم وهو أخذ دور الواعظ الذي لا يشجع عمل المرأة، فما كان منها إلا إجابته: إنها قدرات وإذا كانت زوجتك عاجزة عن أخذ وظيفة أو حضرتك تعلم أنها ليست على قدر المسؤولية وغير مؤهلة فهذا شأنك، أحرج نفسه وأحرجني وتحول ليدافع عن زوجته ويذكر مؤهلاتها، وكان في غنى عن ذلك كله، لماذا أعطى نفسه صلاحية إبداء رأيه الذي لم يسأل عنه في موقع عمل، هل هي مقابلة عمل أم جلسة وعظ وإرشاد، فلا يوجد مهنية ولا وعي في طبيعة موقف كهذا.

إن مشكلة المجتمع تتلخص في نقطتين: الانفتاح السريع على جذور جهل، والعشوائية في كل شيء، فالمرأة تعلمت وحققت الكثير من الإنجازات وما تزال تجهل مشاعرها وكيفية الحفاظ عليها والتعامل مع نفسها وقدراتها، والرجل يريد زوجة متعلمة وموظفة في نفس الوقت تكون جاهلة ولا تملك غيره مصدراً للمعرفة والخبرة الحياتية التي قد تفوقه بها أحياناً.

لقد ضيعنا هويتنا، فالرجل يريد امرأة بخبرة بنت أربعة عشر عاماً وتتحمل مسؤولية شؤونه كرجل يساندها، والمرأة حائرة لا تعرف حقوقها وواجباتها، لا أمجّد الغرب، ولكنّ ما يميز الغرب عنا هو الوضوح في كل شيء، من المشاعر حتى القوانين، والمهنية البحتة، فلا أتوقع أن مدير شؤون موظفين أميركياً يسأل موظفة عن طبيعة مسؤوليتها كزوجة، وفيما إذا كانت ترغب في الإنجاب مجدداً؟!

شرقيتنا لم تمنع النساء يوماً من مخالطة الرجال إذا اضطررن لذلك، أو كنّ على قدر من المسؤولية والعلم الذي ينفع المجتمع، فها هي هند بنت عتبة رضي الله عنها في معركة اليرموك انضمت إلى جيش المسلمين، وكانت تحرضهم على قتال الروم مع زوجها أبي سفيان وهي تقول: "عضدوا الغلفان بسيوفكم".

والشيء بالشيء يذكر، ففي الجاهلية خضعت النساء لنمط طبقي فتم تقسيمهن إلى حرائر وإماء؛ المرأة الشريفة أي تلك المتحدرة من أسرة أرستقراطية، كان من حقها الاعتراض على الزواج أو القبول به، واشترطت بعض النسوة من الأسر الشريفة إن أصبحن عند أزواجهن أن يكون أمرهن إليهن، إن شئن أقمن معهم، وإن شئن تركتنهم، أي أنّ حقّ الطلاق بيدهن، وذلك لشرفهنّ وقدرهنّ، ومن هؤلاء: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش، وهي أمّ عبد المطلب بن هاشم بن عبد المطلب، لم تكن الحرة تجبر على شيء ولا حتى وجهة نظر من رجل، واضحة في مشاعرها وأهدافها.

هل أصبحنا في زمن الإماء؟! حتى في بيئات العمل؟ إذن هذه ليست شرقية، إنها براثن الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر في أوروبا، تحررت منها نساء أوروبا بالقانون وبقينا نحن نمارسها، ليس فقط في البيوت وإنما أيضاً في بيئات العمل.

إلا أن المرأة تستطيع مقاومة ذلك كله، على قدر ثقتها بنفسها ووضوحها في مشاعرها واحتياجاتها، وقدراتها تستطيع التغلب على كثير من العقليات الجاهلية والذكورية المغلقة.

في النهاية، التفاصيل التي نتجاهلها في أنفسنا وفي علاقتنا كرجال ونساء ستغير طبيعة التعامل وسير أهدافنا التي نرجو تحقيقها، والوضوح والمهنية والوعي في موقع العمل تجعل تجاربنا إيجابية، إنني أكنّ الاحترام والتقدير لكل زميل عملنا معه وكان على قدر المسؤولية والوضوح والمهنية.
دلالات
A70A6B05-880A-46F3-93C3-09859D5CFC65
إيناس عبد الفتاح
صيدلانية كاتبة مقالات وقصص على مواقع التواصل الاجتماعي، نرتقي بالفكر ونكتب لنصل إلى العقول وشيء من العاطفة