الرئيس الضيف (2/2)

الرئيس الضيف (2/2)

30 يوليو 2019
+ الخط -

«يا ابن اللعيبة» قالها الرئيس للدكتور فريد وهو يتصفح الملف الذي عرضه عليه الدكتور فريد قبل إرساله، كان "الملف الذهبي" أكثر من مجرد ملف، كان عبارة عن دفتر ذكريات حافل وحميم أعده الدكتور فريد للرئيس الضيف وزوجته، يتضمن صورًا للفيلا التي سكن فيها عندما كان سفيرًا، ومركبه النيلي المفضل الذي كان يعشق الإبحار به في رحلات ليلية عارمة بمحبته لزوجته وقتها، مسجده التاريخي المفضل، الكنيسة التي تعود على زيارتها في أعرق أحياء البلاد المسيحية، وحتى الطَّباخ الشعبي الذي رافقه طيلة فترة عمله. 

كل ما له علاقة بالسنين الثلاثة التي قضاها الرئيس الضيف في البلاد كان موجودًا في ذلك الملف الذي قاد الدكتور فريد فريق عمل من أجل إعداده. «ما تعمل لي ملف زي ده يا فريد.. المدام هتفرح بيه قوي»، لم يكن الرئيس يتحلى بخاصية الاندهاش أبدًا، لكنه ذهل ـ لدرجة لم يتمكن فيها من إطلاق شتائمه الودودة المعتادة ـ عندما نهض فريد منحنيّا من توه وهو يقدم لسيادته ملفًا متخمًا لكنه أيضًا ذهبي اللون به صور للرئيس وزوجته ظلا عدة ليالي بصحبة الأولاد والعائلة يتذكران أين وكيف التقطت. 

عدّى الدكتور فريد. شرخ. ولم يعد ممكنًا أن يوقف انطلاقه أحد بعد الآن، لم يعد زملاؤه قادرين على مجاراة تفكيره الجهنمي، أخذوا يلعنون اليوم الذي قرر فيه الرئيس الضيف أن يزور بلادهم، فلولا تلك الزيارة المشئومة لما كان من أمر الدكتور فريد ما كان. 


كل مساعدي كبار المسئولين عاشوا أيامًا صعبة بسبب ذلك الملعون الدكتور فريد، الكل كان يجمع طاقم مساعديه لكي ينهال فيهم بَسْتفة وشتيمة وشخطًا وشخرًا: «آه يا كسالى يا معدومين الخيال..إيه لازمتكم ولازمة الفلوس اللي بتلهفوها لما انتو مش عارفين تعملوا حاجة في حياتكم يا ولاد الـ.. ». حتى رؤساء تحرير الصحف الحكومية وقعوا في حيص بيص، لم تعد أشكال نفاقهم التقليدية مجدية البتة مع خيال النفاق الجديد الذي أشاعه الدكتور فريد في مصر، رئيس تحرير ثاني أكبر صحف البلاد عقد مسابقة بين المحررين الشبان لمن يتقدم بفكرة مبتكرة لمواكبة زيارة الرئيس الضيف للبلاد، أسفرت المسابقة عن كارثة محققة عندما نشرت الصحيفة موضوعًا على صفحتين عن الأفكار التي تعلمها الرئيس الضيف من حكمة وحنكة رئيس البلاد عندما كان سفيرًا لدينا وكان رئيس بلادنا ــ «أطال الله عمرنا لكي نتنعم بحكمه» ــ في ريعان شباب حكمه. كان المحرر الشاب قد عكف طيلة أسبوع على إثبات أن كل ما حققه رئيس الدولة العظمى لبلاده من قفزات سياسية واجتماعية واقتصادية كان مستوحى من أفكار وخطب وبرامج رئيسنا العظيم خاتمًا موضوعه المطول بعبارة للرئيس الضيف قال فيها إن المنطقة بل والعالم بأسره بحاجة ماسة لرئيسنا حفظه الله. 

لم يهنأ المحرر بإكمال يومه الأول في المنتجع الساحلي الذي أمر رئيس التحرير بسفره إليه هو وزوجته على نفقة الجريدة كمكافأة له، إدارة شئون العاملين طلبت منه العودة فورًا لكي يتسلم قرار فصله وباقي مستحقاته، لأن موضوعه الملعون تسبب في أزمة طاحنة بين البلدين كاد الرئيس الضيف يلغي زيارته على إثرها، بعد أن نشرت أكبر صحف بلاده ملخصًا للموضوع على صدر صفحتها الأولى متسائلة ما إذا كان رئيس الدولة العظمى ذاهبًا لكي يوجه الشكر للرئيس الحقيقي الذي كان يحكمنا من الباطن. بعدها بيوم كانت الصحيفة ذاتها تنشر خبرًا عن احتمال إلغاء الزيارة وعن رفض رئيس الدولة العظمى الرد على مكالمة من نظيره الذي حاول أن يعبر عن رفضه التام لما نشر وعن أنه مستعد لإغلاق الصحيفة كترضية لرئيس الدولة العظمى.

وحده الدكتور فريد كان قادرًا على حل أزمة كهذه، في اليوم التالي نشرت صحف البلاد كلها حوارًا أجراه صحفي من الدولة العظمى كان زميلا للدكتور فريد أثناء بعثته، أرسل له فريد طائرة خاصة لإحضاره إلى البلاد، كان في انتظاره ملف به أسئلة حول العلاقة الخاصة التي تربط بين الرئيسين الصديقين وكيف أن رئيس الدولة العظمى كان له فضل في كثير من القرارات التي اتخذت في البلاد وكيف أنه كان مساندًا لكل عمليات الإصلاح والتغيير التي شهدتها البلاد طيلة الفترة الماضية، بالطبع لم يكن في الملف أسئلة فقط بل كانت به أجوبة أيضًا عكف الدكتور فريد على إعدادها بصحبة عدد من كبار خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية الوحيد في البلاد. ومرة أخرى بفضل الدكتور فريد عدّت على خير. 

لم يعد أمام خصوم الدكتور فريد الآن سوى أن يلجأوا لإيقاف رحلة صعوده المتسارعة بضربه تحت الحزام فقرارهم السابق بانتظار انتهاء الزيارة حتى يتفرغوا له لم يعد مجديّا، فربما انتهت الزيارة بوصوله إلى موقع رئاسة الوزراء أو بتدبيره لانقلاب عسكري يوصله شخصيّا إلى الحكم، لذلك وجبت زنبقته الآن وفورًا. لم يكن قد ترك لهم ثغرة لينفذوا منها إليه سوى انشغاله الدائم بكسب رضا الرئيس الأب وتجاهله التام للوريث القادم الذي كان ولي نعمته وسبب سعده، قرروا أن يتركوا الدكتور فريد سادرًا في نشوته برضا الرئيس الأب عنه، وبمكالماته التي يهب لها واقفًا وصارخًا من أعماقه «تمام يا فندم»، مكتفين بقضاء كل أوقاتهم في إيغار صدر الرئيس الابن ـ كما كان الشعب يسميه ـ على ذلك الجاحد الذي لم يصن النعمة ولم يقدر أنه لولا ما فعله الرئيس الابن من أجله لظل نكرة كما كان وكما ينبغي أن يكون. 

عندما حل موعد زيارة الرئيس الضيف إلى البلاد كانت جميع الأوساط السياسية تنظر بقرف لتقافز الدكتور فريد الدائم بين الرئيسين ولعبه لأدوار المترجم المقتدر والنديم الحميم والسمير المهذب، كان الجميع يشعر بالشماتة في ذلك الرجل الذي لا يعلم أنه سيطير من كرسيه فور رحيل الرئيس الضيف، لأنه راهن رهانًا خاطئًا، راهن على الماضي الذي سيولي بدلا من المستقبل المشرق الآتي لا محالة، كان الكل يتعجب في جلسات النميمة السياسية على ذلك الإنسان الذي أوتي كل هذا الدهاء لكنه لم يتمكن من قراءة الواقع قراءة سليمة تمكنه من اختيار قرار صائب، «هو كده البني آدم لما يغره عقله.. مهما راح ومهما جه بشر.. أصله برضك ما يقدرش ياخد كل حاجة.. بكره يقع والسكاكين تنزل عليه من كل ناحية.. ده ناسي إن الرئيس الابن لدعته والقبر.. ده ما بيرحمش أبدًا.. بكره الناس تترحم على أيام أبوه.. على الأقل أبوه دمه خفيف.. يا نهار اسود على السواد اللي هتشوفه يا دكتور فريد». 

لم يشُفْ الدكتور فريد السواد أبدًا، لم تشُفْ عيناه إلا السرور والحبور وأطايب الأمور، كان قد وصل إلى ذروة تحليقه في اليوم الأول للزيارة بجولة النوستالجيا التي نظمها للرئيس الضيف وزوجته والتي اهتزت الدولة العظمى فرحًا وطربًا بصور الرئيس وزوجته وهما يحتضنان بعضهما في مركب نيلي صغير لعب فيه الدكتور فريد دور المراكبي مستمتعًا بنجاحه ليس فقط في إيصال علاقات البلدين إلى أعلى ذراها، وضمان أكبر قدر من المساعدات المالية لبلاده، وقطع الطريق أمام كل تخرصات المعارضة وتقارير منظمات حقوق الإنسان، بل نجاحه في تحقيق معجزة بشرية هي إعادة قلبين عجوزين لينبضا بحب كاد يموت. 

يومها أعلن رسميّا عن إلغاء إحياء اعتدال للحفل الساهر المقام على شرف سيادة الرئيس منعًا لتجديد أي توتر بين الزوجين، وتم الاكتفاء بفقرات تراثية راقصة محتشمة وفقرة غنائية لكورال أطفال الرئيس الذي كان قد اكتسب في الأوساط الفنية مكانة مماثلة لتلك التي يحظى بها الحرس الجمهوري بين أجنحة جيش البلاد. 

عندما استأذن الرئيس الضيف أكثر من مرة خلال الحفل لكي يذهب إلى دورة المياه ذكره رئيس البلاد مداعبًا بأنه حذره خلال العشاء من تناول وجبة البلاد الشعبية الأولى الطعمية المحشية والتي سأل الرئيس الضيف عنها بمجرد جلوسه إلى الطاولة، لم يترجم الدكتور فريد بدقة جملة «إنت اللي جبته لنفسك.. قلت لك هتحمى عليك بالليل»، بل حوّرها لتصير جملة أرق بكثير محتفظًا لنفسه بحق التصرف السياسي، «الرئيس يقول لك تحب نعدم الطعمجي»، ضحك الرئيس الضيف متجهًا إلى الحمام بصحبة حرسه والدكتور فريد الذي أصر على أن يحظى بشرف اصطحاب سيادته إلى الحمام. 

لم يكن ممكنًا أن يتوقع أحد أن ذهاب الرئيس الضيف إلى الحمام ثلاث مرات كل مرة استغرقت ما بين سبع إلى عشر دقائق لم يكن له أدنى علاقة بالطعمية، وأنه كان يستمتع في كل مرة بتابلوه استعراضي تحييه اعتدال على رخام دورة المياه التي جُهزت خصيصًا لذلك، وأنه أصر في كل مرة على أن يمرمغ رأسه في صدرها الذي زادته الأيام عرضًا وعمقًا وارتفاعًا، وبالطبع لم يكن ممكنًا أن يعرف أحد أن تلك الفكرة الجهنمية التي تفتق عنها ذهن الدكتور فريد كانت سببًا كافيّا لمنحه أرفع أوسمة الدولة العظمى بعدها بأشهر. 

 

في اليوم الثاني والأخير من الزيارة وخلال المؤتمر الصحفي الختامي للزيارة طرب أعداء الدكتور فريد لرؤية ابن الرئيس وهو يتجاهل يد الدكتور فريد الممدودة له بالسلام، كان واضحًا أن الدكتور فريد يعيش الآن آخر اللحظات السعيدة في حياته، وأن البلاد ستشهد في الغد إقلاع طائرة الرئيس الضيف وإقلاع الدكتور فريد عن مسرح السياسة إقلاعـا لا هبـوط بعـده.أخذ الجميع ينظرون باحتقـار إلى فـريد ــ من غـير دكتور ــ وهو يحاول تصوير الأمر على أنه دعابة من ابن الرئيس ويتعجبون من قدرته على كبت مشاعر الامتقاع والخوف في داخله، لو حدث ما حدث لأحدهم لعملها على روحه فورًا ولهوى يقبل نعلي ابن الرئيس طالبًا الصفح والسماح، لم يكن أي منهم يعلم أن ضحكة الدكتور فريد وقتها لم تكن مصطنعة بل كانت نابعة من أعماق قلبه، لو علموا لانحنوا هم على قدمي الدكتور فريد لكي يهروها تقبيلا ويطلبون منه العفو والسماح على ما فرطوا في جنبه. 

في منتصف كلمة الرئيس الضيف جاءت المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أحد حتى الرئيس الأب. بالطبع توقع الجميع أن يبدأ الرئيس الضيف كلمته بالثناء على رئيس البلاد وعلى الإصلاحات الجبارة المذهلة التي يقودها بكل تأني وحكمة، وبالطبع توقعوا أن يشيد بالتجربة الديمقراطية التي أصبحت مثلا يُحتذى به في المنطقة، لكنهم لم يتوقعوا أبدًا أن يشن الرئيس الضيف هجومًا كاسحًا على صحف المعارضة التي استهدفت ابن الرئيس بحملات صحفية جارحة تستكثر عليه حقه في المشاركة السياسية وتدعي أن والده يعده لكي يصبح وريثًا له في الحكم، سكت الجميع كأن على رءوسهم الطير وهم يشاهدون الرئيس الضيف يمد يده إلى الأوراق الموضوعة أمامه على المنصة ويخرج منها ملفًا ذهبيّا ضخمًا ليلوح به قائلا بحماس: «لقد بعث إليّ صديقنا الدكتور فريد مشكورًا بملف كامل عن الإنجـازات التي ساهم ابن فخامة الرئيس خلال الفترة الماضية في تحقيقها وهي إنجازات لم تقتصر فقط على مجال إصلاح الحزب الحاكم ولم تقتصر على مناقشات نظرية وفكرية مهمة بل امتدت إلى زيارات ميدانية لمواقع مختلفة في أنحاء البلاد وقد تأثرت كثيرًا وأنا أشاهد الحفاوة التي يلقاها من أبناء الشعب البسطاء، وقرأت ملخصًا للأفكار التي طرحها ابن سيادتكم، وقد تكرم الدكتور فريد بترجمتها مشكورًا، ويبدو أن ابن سيادتكم تعلم منكم الكثير وأنا أسجل هنا كم أنا فخور به وكم أنا مندهش لأنه لا يلقى التقدير الكافي من البعض، للأسف لم أرزق بأبناء لكي أختبر مشاعر الأبوة لكنني أعلم أنه لو كان لدي ابن مثل ابن سيادتكم لما تأخرت في السعي لإيصاله إلى كرسي الحكم في بلادي». 

لم يكن أحد قد أفاق من مفاجأة ما قاله الرئيس الضيف، حتى فوجئ الجميع بالدكتور فريد ـ الفائق الوحيد وقتها ـ يقف ليصفق بحرارة وإيمان ناظرًا بكل حب ومودة لابن الرئيس الذي كان لا يزال فاغرًا فاه غير مستوعب لما سمعه مفكرًا في الحرج الذي يمكن أن يقع فيه لو طلب منه الرئيس الضيف أن يشرح له فكرة من الأفكار التي كتبها الأفَّاق فريد، عندما اشتعلت القاعة بالتصفيق وهي ترى رئيس البلاد يمسح دمعة نزلت من خده ويغادر المنصة لكي يحتضن ابنه ويقبله ويقدمه إلى الرئيس الضيف لكي يقبله ويحتضنه هو الآخر، كان ذهن الرئيس الابن مشغولا بجلد ذاته بعنف وهو يشاهد دموع الفرحة وهي تنساب من عيني الدكتور فريد الذي كان يبكي كأم في حفلة تخرج ابنها الحيلة، أخذ الرئيس الابن يفكر في سؤال مهم هو كيف عجز عن الشعور بكل ذلك الحب الذي كان يكنه له الدكتور فريد في صمت وكم كان سيخسر لو كان قد أسلم أذنيه لحساد الرجل وكارهيه. الرئيس الضيف كان مشغولا بالتفكير في طريقة لاستقدام اعتدال إلى بلاده في أسرع وقت دون أن تشم زوجته خبرًا. أما الرئيس الأب فقد كان ينتظر انتهاء المؤتمر سـريعًا لكي يزغـد الدكتـور فـريد في كتـفه ويقـول له جملتـه الأثيـرة: «يا ابن الجنية.. عملتها ازاي».

 الوحيد في القاعة الذي لم يكن يفكر أبدًا في ذلك التطور المذهل الذي حدث، كان الدكتور فريد، ليس فقط لأنه سبق أن رأى ما يحدث في خياله، بل لأنه كان يفكر حينها في ما يتوجب عليه إعداده من محتويات الملف الذهبي التالي. 

ـ نشرت هذه القصة لأول مرة عام 2006 وهي جزء من مجموعتي القصصية (ما فعله العيان بالميت) التي يعاد طبعها قريباً بإذن الله ـ 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.