الراقم الأخير!

الراقم الأخير!

10 يوليو 2019
+ الخط -

قهوة لا تليق بها الأضواء، عدسات الكاميرات تفقدها قيمتها، تتيه مثلي في صخب الشمال، لا يغريها صفاء البحر ولا الصالونات الباهية.. هي تستحق أن تقوم جدتي من أجلها باكراً، ويفرش لها أقدم صينية، مع حضور رسمي لجدي من بعد الصلاة، ونلتف جميعاً حولها.. ثم لا أنال منها غير رشفات لاسعة كافية للانتعاش بنكهتها حد الانتشاء..

القهوة حلاوتها حفنة سكر من يدها إلى البراد.. لا تراه أنت ولا تخلطه فقط تتحسسه وتتلذذ.. القهوة لا يكفي أن يكون زادك الخيال في حضورها إذا كنت بها تستقبل نهاراً جديداً، إذ تغمرك نشاطاً وتفاؤلاً وطموحاً، تنفض عن عقلك غبار الخمول وتنزع عن عينيك غشاوة الكسل وتنثر على جنبات الفنجان حكمة معتقة..

القهوة تقدم لك، لا تدفع عنها ثمناً بل تشربها ضيفاً ثقيلاً متباهياً فيزداد مضيفك بهجة وسروراً أن قد أعجبتك.. القهوة انتظار لوليمة تعد على نار هادئة.. فوق جمر الأماني وبين أكف عامرة بالجود..

القهوة.. روح وريحان.. تعبق بالشيح والخرجلان.. بين أوتاد الأصالة التي تتعكز عليها خيام جبال عمور.

لم يكن مقرراً لإرث الزربية أن يتناقص موجدوه، فقيمته اللا مادية في تجذره عميقاً، مذ عرفه الإنسان الأول، شيد معالمه بأسس متينة تحفظ له البقاء، تمت هندسته محاكاة لبيئته، مروراً بالحقبة العثمانية التي أثرت في أسماء مكوناته، وصولاً إلى العرب المرتحلين الذين اختاروا جبال بني راشد مستقراً لهم، واختاروا له معالم تحكي تاريخهم وتحاكي واقعهم وتتطلع لآمالهم في قابل أيامهم، وليس آخراً.. أضحى هذا الإرث كله يحافظ عليه إن استطاع الراقم الأخير..

فالرقمة بعد أن كانت تصوره للمنتوج، وهو يصمم أشكالها الهندسية ويختار لها الأوصاف والأسماء، جعلت منها الندرة في كل مرة يحاول أن يرقم فيها كأنها الخطاب الأخير، الذي يجهد في تمريره في أبهى حلة، أملاً أن تكون الرقمة رمزاً للإتقان أما بالنسبة لهن "نسوة الخيام" فما كان عليهن إلا اتباع المسار، وقبله اختيار ما يناسب الهوية ولا ينافيها، فجدت كل واحدة على حدة في انتقاء لبنات خالصة نقية منشؤها خيرات هذا الجبل، استغرق توفرها دورة الطبيعة وحولان الحول، وبعد بسم الله راحت تعدها على نار من الصبر هادئة، تحكي عليها التاريخ والواقع والأمنيات، تنساب الأنامل طروبة بمدائح على إيقاع الجلالة، لم تدرس الهندسة لكنها الرقمة في دقتها ومهارة راقمها كأن كل شبر فيها وحدة قياس..

وبهذا فقط صارت زربية جبال عمور المطرزة بأبهى الرقمات ماركة تجارية عالمية.. هذا البساط يشبه الأرض التي نشأ فيها ويحوي جزءاً من شخصية الراقم عليه، وسر الأصالة فيه أصالة مكوناته وجزيئاته، فالأصواف نتاج تربية المواشي، والصباغة طبيعية من بعض قشور الأثمار أو النبات، والإتقان ناجم عن جهد الجميع في الأسرة الواحدة وعبر مراحل من العمل الدؤوب والصبر والمثابرة، فما أجمل أن تجتمع الهوية والجمال والإتقان والانتفاع المادي في الرقمة الواحدة.

58850609-52ED-4541-9662-24539F16E4AB
بطمة أحمد طالب

تجيد الحروف الحفاظ على سحرها مابقينا لها أوفياء.