سمير حميدي... تشكيلي من إدلب في يده ريشة رامبرانت

سمير حميدي... تشكيلي من إدلب في يده ريشة رامبرانت

01 يوليو 2019
+ الخط -
تغمرك دهشة الفرح وأنت تشاهد لوحات التشكيلي السوري سمير حميدي المرسومة بحرفية فنان عالمي مغمور، هو الشعور ذاته الذي يتلبسك دوما عندما تشاهد أعمالا فنية تنم عن ذوق رفيع وموهبة هائلة تنضح من إناء معرفي لا ينضب.. رامبرانت مثلا.

أنا لا أمزح هنا، أو ألقي الكلام جزافا على عواهنه، كما يقال. فأنت حين تدخل مرسمه، في تلك اللحظة تماما، كأنما تهجر عالم البشر والأشياء وتلج مملكة السحر الفني حيث يتجسد لك اللون مجسما في لوحات "لوفرية" -نسبة إلى لوحات متحف اللوفر في عاصمة النور باريس- من خلال ضربات ريشة أو سكين في يد جربت الحياة بكل ما فيها من فرح وترح من سعادة وشقاء من خبث وطهارة، من خير وشر، من حرب وسلام، من رذيلة وفضيلة، وسعت كي تتوازن الأضداد في عالم الله الرحيم.

يستثير سمير حميدي بأعماله الفنية الهمم كي تكون حياة الإنسان في هذه الدنيا أكثر عدلا، وأوفر سلاما، وأقرب رشدا. ولكن الإنسان هو الإنسان، يهتدي ويضل، يسعد ويشقى، يصيب ويخطئ، وإن أسوأ فكرة خطرت للإنسان أن يكون بطلا في الحروب، على حد تعبير صديقنا الجميل الروائي الشاعر إبراهيم نصرالله، وهناك ألف مكان آخر يمكن أن يكون فيه بطلا حقيقيا. أو على أقل تقدير، هذا هو أحد الانطباعات الكثيرة التي تورثها تلك المسطحات اللونية التي تخطها ريشة فصيحة تدربت حتى كلت من التدريب، فأعطتنا هذا السحر اللوني الفصيح الباهر.

تصعد إلى مرسمه في الطابق الثاني من بناء حجري أبيض، تدخل حجرات المرسم الغارقة في تفاصيل صغيرة من مقتنيات العصور الغابرة، وأيضا من الحداثة العصرية، فتدهش.

المرسم في حي "بستان غنوم" وسط المدينة التي أصبحت أشهر من نار على علم، واسمها يتردد في أفواه زعماء العالم من على منبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بعد أن كانت من المدن المنسية..

إدلب، نعم، في الشمال السوري، والمشهورة بزيت زيتونها وصابون غارها وأديبها الكبير حسيب كيالي الذي ولد في أحد أزقتها ومات في دبي بعيدا عن مسقط رأسه. وأتساءل -بالسين والهمزة لا بالثاء والقاف- ما الحاجز الذي يمنع أن يكون التشكيلي السوري سمير حميدي مشهورا كمدينته؟ فلا أجد جوابا. أو قد يكون الجواب حاضرا ولكنني لا أملك شجاعة البوح به.

قلت لسمير حميدي عاشق الشاي والموسيقى والتحف اليدوية والألوان والجمال والناس، والنساء أيضا، وأنا أشاركه كأس الشاي ودفتر مسودات لوحاته: احكي لي عن تلك القصة التي سمعتها عنك عندما كنت في العاشرة من عمرك أو أقل قليلا..

قال: "في بداية سبعينيات القرن العشرين كنت ولدا يلعب مع الصبيان في أرض الحارة القديمة في مدينة إدلب، مر سائق حافلة ركاب كبيرة تسير على خط إدلب دمشق يسأل عن دكان خطاط، أشار الصبيان نحوي حيث كنت ألعب، وقالوا: هذا خطاط. نظر سائق الحافلة مليا في وجه الصبي الذي كنته، ثم قال: ماذا يلزمك من أدوات، قلت: فرشاة وعلبة دهان. وراحت أناملي تنطق فصاحة عن كلمات وجمل غاية في الروعة والإتقان، أخطها في واجهة الحافلة وعلى جانبيها وفي خلفيتها، غبت عن الدنيا وأهلها، وكأنني أنسخ من كتاب مفتوح: راجعة بإذن الله، إدلب دمشق، بسم الله الرحمن الرحيم، سترك يا الله، ما شاء الله، الله المستعان، يا رب، سبحان الله".

ذهل رجل الحافلة من حذاقة هذا الخطاط الصغير فما كان منه غير أن نقده خمس ليرات سورية قطعة واحدة بعد أن أنهى عمله، وكانت الليرات الخمس في تلك الأيام مبلغا محترما، عندها أدرك سمير حميدي ما فعله، فانكب على أقلامه وأوراقه بصبر وروية. ساعات تتلوها ساعات وقلم الفحم يلتصق بأصابع كفه اليمنى، لا يمل ولا يكل، ومسودات الورق يتلو بعضها بعضا، تتكدس في كوم صغيرة من الكدح المتواصل. وتنده أمه من تحت شجرة النارنج في أرض الدار العربية: يا سمير، يا بني انزل من "العلية" كل كم لقمة صار الوقت بعد العشاء وأنت على لحم بطنك من الصباح، ماذا يلهيك فوق؟

"العلية" أو المربع، كما يسمى، غرفة بناها جده لأبيه على سطح البيت، يصعد إليها بدرج حجري منحوت مغروس من جانب واحد في الجدار، والدرجات الحجرية من نحت الجد، فقد كان نحاتا مشهورا في المدينة تلك الأيام. هل أخذ سمير حميدي عن جده موهبته ودقة نظره؟ ربما يكون الأمر كذلك. ومن ثم راح يتلهى بهذه الموهبة على حد تعبير أمه؟

وأنا لا أكتمكم سرا إذ قلت: لقد زادت دهشتي في مدينة أزمير التركية على شاطئ بحر إيجة-حيث أقيم مع أسرتي بعد أن شردتنا الحرب- وأنا أمعن النظر في جذوع أشجار الصنوبر في حدائق المدينة العصرية حيث تنعكس خيوط الشمس على جذوع أشجار الصنوبر الباسقات فترى ضربات سكين سمير حميدي وكأنك في مرسمه تماما.

الدهشة هذه تمثل لي سؤالا طالما كان مثار متعة لي، وقد عملت لوحاته على جعل ذلك السؤال مدار مقاربة فنية رائعة وعلى نحو مشرق. ما السر وراء هذا السحر والإدهاش اللوني الباهر؟

ما سر انشراح الصدر الذي يغمر المرء وهو يشاهد لوحات الحبر الصيني التي يبدع فيها، وتذكر هي بالحبر الصيني الأسود، ما هذا التضاد؟ سواد في بياض، فرح في ترح، هل لتتناغم مع أيامنا العجاف هذه التي نعيشها في إدلب؟ ما السر هنا؟ وقد ذهلت رسامة صينية زارت مرسمه من لوحات الحبر الصيني تلك ولم تصدق أنها لسمير حميدي، ظنت بأنها لرسام صيني مشهور، لأن رسم اللوحة بالحبر الصيني لا يحتمل الخطأ ويتعذر على الرسام تصحيح هذا الخطأ، وعليه في حال الخطأ أن يبدأ من جديد في لوحة جديدة.

يجاذب نفسي، دوما، شعور غريب، فيما أنا أفكر في تلك الهبة العظيمة التي منحها الله لعباده، الموهبة "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" الآية 53 سورة الزمر. هل يكمن السر هنا؟ وأغلب الظن أنه يكمن هنا، أو ربما يكمن فيما كتبه رامبرانت في يومياته 3 مايو/أيار 1661:

"عيناي تؤلمانني هذا المساء، علي أن أتوقف عن العمل. عليهما غشاوة والألوان تختلط . تمر علي أيام أخاف فيها من العمى، في الليل والنهار أحلم به، فاستيقظ مرتجفا، عالية ضربات قلبي. مع ذلك، حتى لو عميت، سأظل أرسم. أنا أعرف الألوان من رائحتها. أصابعي تعرفها أيضا. الألوان بعض مني، هي بعض مكونات داخلي".

وأكاد أقول سمير حميدي من طينة رامبرانت. وأفرح لأنه من مدينتي وأستطيع أن أقول له أسعد الله أوقاتك بكل خير يا سمير حياك الله ورعاك. وهنا أعود إلى ما كتبه الرسام الهولندي رامبرانت في يومياته والتي صدرت حديثا عن دار المدى للثقافة والفنون حيث قال في يوم 27 مايو/أيار 1661:

"إن جاءت أي سحابة لتغيم أفقي، سيدفعها الحب عني. وكذلك العمل. عمل جاد يليه عمل جاد أكثر. فأنا في الرسم أغيب المشكلة مثلما أمحو خطا لا أريده، أو أمسح عملا منقوصا".

نعم، يمكننا القول بثقة إن حب العمل دفع الغيوم بعيدا عن خيوط الشمس التي تلون لوحات سمير حميدي وتجعل منه رساما له القدرة على الإدهاش. لا شك في أنني معجب بالمفردات اللونية الواسعة أو الهائلة التي تبدعها ريشته الفصيحة، وأكاد أقول أنها تنطوي على إشعاع روحي قبل أن تتجسد في ضربة فرشاة أو سكين. هذا البعد الروحي في لوحات الخط العربي مثلا يدفعنا لنذوب وجدا فيها، بل نحس كأننا نعيش في داخلها وننتمي إليها، ونستعذب ديمومتها في دواخلنا. وعندما نغادر مرسمه يستمر تأثير اللوحة فينا.

ما السر في هذا السحر؟ بالنسبة لي أجد أن سمير حميدي خلق لهذا العمل كي يكشف أسرار الكون، لأن الكلمة وحدها لا تستطيع التعبير عن الرمزية الكونية، فتحضر ألوان خيوط الشمس، تدخل موشور الرسام، فيحولها بهجة من ألوان قوس قزح، تسمو بنا فوق هموم الحياة اليومية.

دلالات

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.