"زمن المذلولين": الذُل بوصفه شكلاً للنظام العالمي

"زمن المذلولين": الذُل بوصفه شكلاً للنظام العالمي

02 يونيو 2019
+ الخط -
تناولت العديد من الدراسات والكتب مظاهر الاستعباد والإذلال، خصوصًا أدبيات الحروب، وما بعد الاستعمار، فمثلًا في كتابه "معذّبو الأرض" تناول فانون، العلاقة بين المُستعمِر والمُستعمَر، وكيف يقوم الاستعمار بإذلال المواطنين والممارسات التدميرية للأملاك والثقافة القومية، وصهر الهوية الوطنية، والذي من خلاله نفهم جوهر الكولونيالية، وما بعد الكولونيالية.

أمّا المهدي المنجرة، فتناول في كتابه "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية"، الإهانات الّتي يتعرّض لها العالم العربي والإسلامي، والّتي لم يسلم منها الإرث الثقافي أو المعرفي، وأنّ وجود إمبريالية واحدة -أحادية القطبية- أتاح الفرصة لزيادة الهيمنة على كافّة الأصعدة. وهو يُعرّف الإذلال بـ"شر قديم يعود بقوة ليبسط هيمنته على العالم. فقد غدت المهانة شكلًا للحكم، ونمطًا لتدبير المجتمعات وطنيًا وعالميًا. والذُل -كما يُعرّفه معجم روبير- هو فعل الإذلال الواقع على الغير أو على النفس".

لكن ما يُميّز كتاب "زمن المذلولين"، للكاتب الفرنسي برتران بديع، أنّه تناول الإذلال، لا على المستوى الداخلي بل الخارجي/الدولي، وكيف أنّ النظام العالمي قائم على اللامساواة، وكيف تستخدم الدول الإذلال كي تضع لنفسها موقعًا واعتبارًا على خارطة العالم. فكما أنّ العولمة ظهرت -بادئ الأمر- في سياق اقتصادي، لتوسيع الاستثمارات، نجد أنّ هذا النظام المُعولم، يُرسّخ نفوذ دول على حساب البقية. وإن جاز القول، أصبح في العالم -كما عرّف فيبر الدولة- من يحتكر الاستخدام الشّرعي للعنف تجاه دولٍ أخرى، سواء كان ماديًا أو معنويًا، وكذلك يحتكر التّدخل في حل النِّزاعات، ويهيمن على القرارات الدولية. وهذه الدّول، تُقنع الدّول الأخرى بالزبائنية، لتجد الأخيرة نفسها في شِراك التّبعية. ويُنظّر الكتاب لفكرة أننا بتنا نعيش في نظام عالمي يحكمه الذل. ونجد الآن، كيف صارت ممارسة الذُل مصدرًا للفخر، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، في تجمع انتخابي بولاية مسيسيبي، يوم الثلاثاء 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، قال إنه حذّر ملك السعودية من أنه لن يبقى في السلطة "لأسبوعين" من دون دعم الجيش الأميركي. وقبل ذلك وصف آل سعود بأنّهم لا يُمثِّلون أكثر من بقرة حَلوب، ولم يُجابه بأيّ رد!

يُمكننا تصنيف الكتاب على أنّه يندرج ضمن دراسات علم الاجتماع السياسي، لما يدرسه من تأثير الحروب على المجتمعات، وتناوله موضوعات مثل التّحرر من الاستعمار، وأسباب نشوء الإذلال. كما يُمكننا قول إنّ الكاتب يميل في تناوله للظاهرة إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية بمفهومها الكلاسيكي والبنيوي، لما نجده في طرحه من التركيز على الأنانية والفوضى والقوة السياسية، ومن جهة أخرى إلى المدرسة السلوكية، كونه يدرس أنماطا متكررة، ويعتمد على المنظور الدوركهايمي، ليصل إلى التعميم وإطلاق الأحكام العامة. ويُجيب الكتاب على سؤال رئيس: كيف يُمارس الإذلال في العلاقات الدولية؟ وكيف تختلف أشكاله وممارساته بين القوة الخشنة/العسكرية والناعمة/الدبلوماسية؟ والناعمة هي ما يركّز عليها الكاتب، كون الإذلال هو ما يترك أثرًا بالمهانة، ويجعل المُذل في موضع أقل. وختامًا، يبحث كيف ترُد الدُّول الواقعة تحت الذل سواء بدبلوماسية الامتعاض أو الجنوح، وإن كان هناك مخرج للتغيير.

يُعالج بديع في كتابه -الواقع في ثلاثة أقسام رئيسية- الإذلال على أنّه اختلال أو عدم انتِظام للنظام الدولي، وهو ما جعله يستخدم لفظة باثولوجيا في العنوان، والّتي تُشير إلى المَرض أو الاختلال الّذي يعيشه العالم، وهو اللامساواة الإذلالية، سواء كانت تأسيسية، مُهيكلة، أو وظيفية. تناول في القسم الأوّل الإذلال وممارساته في تاريخ العلاقات الدولية، وهو يؤرخ هنا لأبرز مشاهد الإذلال الّتي شهدتها العلاقات الدولية، منذ أن عاقبت بريطانيا الصين، كونها أمرت بحرق شحنات من الأفيون مُحملة على مراكب تابعة لها عام 1840، رغم أنّ الاتجار بهذه المادة ممنوع في الغرب، وما شمله العقاب من تعويضات وتنازلات.

رغم أنّ مفهوم الدبلوماسية يرتبط بالمفاوضات والاتصالات، من دون اللجوء إلى العنف، فكيف تُنتج الدبلوماسية إذلالًا؟ يظهر ذلك مع أنماط الحوكمة العالمية الّتي لا تؤدي مهامها. وفي المقابل، أظهرت أوليغارشية جديدة، كما كانت في الحقبة الوستفالية، القائمة على الإثنومركزية، والعولمة القائمة على هيمنة قوى على نظام دولي، بحيث لم تعد الاندماجات مُمكنة، مثلما تُروّج الولايات المُتّحدة لهيمنتها ومصالحها لدى دول العالم الثالث على أنّها اعتمادية.

ويستعرض في نهاية الفصل، نماذج الإذلال في العلاقات الدولية، والّتي يُصنفها بدءًا بالانتقاص، ويرتبط الإذلال بواسطة الانتقاص بتاريخ الحرب والهزيمة، وما يتبعه من التعامل بدون مساواة بين الدول المتنافسة أو المتحاربة، في إطار نظام غير مُهيكل، الأمر الّذي يُفضي إلى تعامل ثأري مقابل. ومثال ذلك، ما قامت به ألمانيا من تمجيد للعرق الألماني، والتّوسع على حساب النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، بعد توقيع معاهدة فرساي، والإذلال الّذي قاسته. أمّا الإذلال عن طريق إنكار المساواة، فظهر مع اكتشاف الآخر من قبل المنظومة الوستفالية، الّتي كانت قائمة على المساواة، فقط لمن يقعون ضمن دائرتها، ذلك أنّ الآخر (الحيواني) لا يرتقي إلى المساواة في الحقوق، وهو ما رفضته بكين أثناء مؤتمر القاهرة للسكّان عام 1994. وهذا الإذلال يؤسس لما بعده، وهو الإذلال بواسطة الإقصاء، وذلك لأن عدم القبول بالآخر كندٍّ، يعني إقصاءه الموضوعي والذاتي، ومن ذلك جاءت تصنيفات إقصائية، تضع الدول الأقل قدرة في تصنيف "دول العالم الثالث"، وذلك مثل الإقصاء الّذي يُمارس ضد إيران، بعدم السماح لها بالدخول في النادي النووي، بل وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وفي المقابل تمّ الصفح عن الهند، رغم رفضها توقيع المعاهدة مع الولايات المتحدة، وكذلك باكستان. وأخيرًا الإذلال بواسطة الوصم، وهو يأتي في الأنظمة غير المُهيكلة لمنع محاولات الإدماج، أكثر مما يهدف إلى انتقاص المكانة، أمّا في الأنظمة المُهيكلة فيُركّز على التنديد المُزري بالآخر، فيما يُميّزه، وتتجمّع فيه سمات سياسية وثقافية. مثلما وصم الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في خطاب ألقاه بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2002، العراق، وإيران، وكوريا الشمالية، بأنّهم محور الشّر، وكذلك كما تربطُ حركات اليمين الشّعبوي الصاعدة، بين الإسلام والإرهاب.

وفي القسم الثاني، يدرس بديع ظاهرة اللامساواة في النّظام الدولي، من خلال ثلاثة مستويات، والّتي تترابط جميعها في العلّة المتمثلة في تأسيس النظام الدّولي بعد الحرب العالمية الثانية، والمُتمثّلة في: (1) اللامساواة التأسيسية، والّتي ارتكزت على الماضي الاستعماري، القائم على التمييز العنصري، المؤسس للعبة الدولية الحالية، والّذي فرض هيمنة تقوم على لامساواة ملموسة. وحتّى ما بعد الاستعمار، ظهرت الكولونيالية الجديدة، والزبائنية. وهو ما يظهر في تفاصيل الحياة اليومية، وتفنّن الاستعمار في إنزال العقاب، مثلما ألزمت بريطانيا عام 1919، السّكان المحليين في الهند بالسير على أطرافهم الأربعة، عند سلوكهم الشارع الذي اغتيل فيه أحد المُراسلين الأوروبيين. (2) اللامساواة المُهيكلة، والّتي ظهرت مع قيام منظمة الأمم المتحدة -رغم أنّها أسست للتعاون متعدد الأطراف- كمنظمة المنتصرين، فالتداول الجماعي، لا يتمّ إلا برضا القوى الخمس، الّتي تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. (3) اللامساواة الوظيفية، والّتي تجمع بين القوى السابقة والعولمة، وتتمثّل في التعددية محدودة الأطراف، والضغط الأوليغارشي، والهيمنة الدبلوماسية، وتعمل من خلال التمييز أو الإذلال في السياسة الدولية، من خلال توسيع دائرة التحكم، وذلك من خلال إنشاء مجموعات صغيرة ومختارة من الدول، وإقصاء الآخرين عن طاولة التفاوض، ومن ذلك إنشاء "مجموعة الثماني" أو "مجموعة العشرين".

ويبحث بديع في القسم الثالث، التداعيات الّتي يُمكن أن تنتج عن الإذلال، أي النِظام المُجابه للإذلال، وهو يُشير إلى المجتمعات كفاعل أساس في اللعبة الدولية، خاصةً حين تكون المؤسسات السياسية غير قادرة على أداء مهامها، مما يُفقدها شرعيتها؛ أي دولة هشّة. فالحركات الاجتماعية تتشكّل عبر شجب هيمنة، تعمد إلى تحويل الإذلال إلى شعار، وبالتالي الرد لا يأتي من السلطات السياسية، إنّما من داخل المجتمع، مثل الحركات الّتي كانت تخاطب سكان المدن، وتُحذّرهم من "التفرنج" التي تتعرض لها، مع السلاطين العثمانيين الذين تعاقبوا على العرش بعد السلطان سليم الثالث عام 1789. وتحت عنوان "دبلوماسيات خارجة على النظام؟"، يدرس إن كان يُمكن للدول الخاضعة للإذلال أن تنفك عنه، وتصوغ سياساتها الخارجية المُستقلة، وذلك من خلال دبلوماسية الاعتراض، ودبلوماسية الجنوح، فالأولى هي نوع من الدبلوماسية الّتي تُخصّص قسمًا كبيرًا من حركتها للاعتراض على النظام الدولي، بهدف جني المكاسب، ومثالها حركة عدم الانحياز، وخطاب هوغو تشافيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006، والذي وصف فيه الرئيس الأميركي بالشيطان، أمّا الثانية، فهي تزيد على الأولى، في تحقيق المكاسب، من خلال تجاوز قواعد ومعايير وقيم النظام الدولي، مثلما طرد رئيس بيلاروسيا عام 1998 عشرين سفيرًا غربيًا من منطقة دوروزي.

وفي الخاتمة، يقترح الكاتب أن العلاج لهذه الباثولوجيا/الإذلال، هو التّحرر من الأوهام الويستفالية، والإثنومركزية الغربية، وإحياء التعاون الدولي متعدد الأطراف، وإعمال سياسات اجتماعية دولية. وهو ما يتناقض مع طرحه، أو يجعل اقتراحه غير واقعي/منطقي، لقوله: "ليست القوة إذًا هي الّتي تتسبب في الإذلال، وإنما السبب يكمن في عدم القدرة على امتلاكها"، وحتّى في طرحه الذي يعتبر أنّ الدول الصغيرة حين تُشكّل رابطة، أنّها بذلك تقاوم الإذلال، فهي لا تعمل بمنأى عن الدول الكبيرة، ولا قراراتها تنصبُّ في مناشدتها، وكأن الإذلال لا مناص منه. وهي بالنهاية تُنفذ إرادة الدّول القوية، بحجّة أنّ القبول القسري أخفّ وطأة من الاستبعاد الكلّي. كمّا أنّه رغم زخم الكتاب بالمعلومات والنماذج، إلّا أنّه وباعتماده المنهج التاريخي الوصفي، لم يُحلل بقدر ما سَرد، خصوصًا الأسباب الداخلية الّتي تُشكّل البيئة الخصبة للإذلال الخارجي.

وكذلك نُلاحظ عدم الدِّقة في تناوله للعالم العربي والثورات العربية، فهو صنّفها ضمن النظام المعاكس للإذلال الدولي، رغم أنّ ما حدث هو انتفاضات على الاستبداد الداخلي، وكذلك ما ورد بأنّ العالم العربي هو الوحيد الّذي لم يستفد من الخروج من القطبية الثنائية، وكأنه هنا يعزي سبب الاستبداد والدكتاتورية إلى الاتحاد السوفييتي، دون فهم لحقيقة الاستبداد العربي وجذوره وأسبابه المختلفة، من استعمار وسياق تاريخي ومجتمعي، وطبيعة الأنظمة، والّتي لكل استبداد منها خصوصيته.
49721F95-8579-4DCE-9938-9DCF3C3F2D54
49721F95-8579-4DCE-9938-9DCF3C3F2D54
مجد أبو عامر

باحث وشاعر فلسطيني

مجد أبو عامر