ثقافة التحايل

ثقافة التحايل

19 يونيو 2019
+ الخط -
طلب أحدهم يوما من أصدقائه على صفحته في فيسبوك أن يحكوا قصصهم مع "ثقافة التحايل"، وادعى أنها ثقافة حاكمة لغالبية سلوكياتنا، وأكد أننا نتداولها ونرتضيها في حاضنة شعبية تضمن انتشارها، وأنه يعتبر تلك الرذيلة حجر العثرة الحقيقي أمام أي إصلاح ممكن.

أصابتني التسمية يومها بغصة لا أنساها، إذ من ناحية تأبى كبرياء المرء أن يعترف بأنه ينتمي لجماعة تنتهج الحيلة طريقا للوصول إلى مآربها، لدرجة وصم ثقافتها بتلك الصفة. ومن ناحية أخرى يأبى ضميري التعميم، فما أكثر ما نعرف من نماذج مستقيمة مستغنية قوية تأنف الاحتيال وتستعفف عن المكسب مهما كبر إن جاء بطريق الخداع والغبن. أو ربما وقعت صدمتي يومها ضمن ما حكمت به صديقة ظريفة على عموم المتفائلين في زماننا هذا بأنهم مثيرون للشفقة كونهم ضعافاً جدا حد التعامي المتعمد عن الحقيقة المُرّة التي لا يتحملونها: "المتفائل ده نبات ظل ضعيف يعيش في صوبة زجاجية ويسقونه بالمياه المعدنية!".. هكذا وصفتنا!

المهم أنني أخذت أقرأ التعليقات على دعوته وأؤمِّن على صحة معظمها. بل وأثارت القصص سيلا من الذكريات والخبرات التي ترسبت في ضميري عبر السنين. فلا ينكر أحد مثلا أن الاعتذار عن دخول الامتحانات لعلة مرضية كان وما زال يتم بتقارير طبية مزورة غالبا. ولا يأنف الطبيب مهما كان ظاهر تدينه أن يوقع بأن الطالب يستحق الاعتذار عن دخول الامتحان لمجرد أنه قريبه أو معرفته. وكذلك الكشوف الطبية اللازمة لرُخَص القيادة أو العمل، إذ تعودنا أن نحصل على التقرير الطبي بلا كشف وبمجرد دفع قيمته في الخزينة. ومثل ذلك في شهادات الخبرة ودورات التدريب وغيرها.


تجاسرت مرة وقمت بشراء نظارة شمسية غالية بالنسبة لتقديري الشخصي للسعر الطبيعي لنظارة شمس. اسألني وهل يوجد سعر طبيعي لأي شيء هذه الأيام وستجيبك دموعي!

المهم.. كنت أعرف البائع من فترة طويلة وأعتبره منضبطا وأمينا كونه لا يحاول بيعنا الغالي أو مجاراتنا في شراء أي شيء والسلام كما يفعل الكثير من البائعين. وبسبب تعطل جهاز الكمبيوتر بالمحل، قرر إعطائي فاتورة ورقية مختومة، ووجدته يدون فيها التفاصيل ثم يلتفت ليسألني بكل طبيعية: حضرتك تحبي نكتبها نظارة شمس ولّا نظر؟!

قطبت للحظة وأنا لا أفهم معنى سؤاله، فالنظارة التي أتعبتُه لنصف ساعة في انتقائها نظارة شمس.. وها هي أمامه.. هل نسي بهذه السرعة؟ أم تراه منصرف البال في همومه؟ فنظرت له بتساؤل فابتسم، ووجدتني أفيق فجأة على فهم مؤلم لمعنى سؤاله: يدون أنها نظارة نظر، فأقدمها أنا لجهة عملي أو تأميني الصحي وأحصل بها على المتاح من مبلغ التأمين. وقد تجرأت يومها ونظرت له بمنتهى اللوم وسألته: يعني بربك هل تتصور أننا وسط كل ما نكابده من بؤس لا ينقصنا إلا المزيد من السُحت وقلة البركة؟! فتبسم بحرج وتمتم بتفسير واهن لم أعره أذنا أبدا، وانصرفت حزينة.

وأتذكر أنني استرجعت يومها ما أعرفه من أن محلات الأدوات الصحية والكهربائية والبويات وغيرها من لوازم المعمار والديكور كانت تقوم بصرف فواتير بقيم غير حقيقية كيفما يطلب العميل ليقوم بتقديمها للجهة التي يعمل لها فيحصّل مالا حراما خالصا.

وتذكرت أن الكثير من الأرامل يُقبلن على الزواج العرفي تحايلا على قوانين المعاشات، حتى تظل السيدة تستلم معاش زوجها المتوفى بالرغم من زواجها. وتذكرت حيل المحامين في تسجيل عناوين وهمية لموكليهم حتى لا يتسلموا إخطارات المحاكم أو حتى لا يُستدل عليهم. وتذكرت الألاعيب التي يقوم بها أصحاب الأعمال في سبيل التهرب من دفع الضرائب والتي تجعل القاعدة الغالبة للتقديرات الضريبية جزافية التفافا من السلطة على التفاف الممولين.

وقد لا يهدف التحايل للنفع المادي فقط، فكثير من الآباء لا يترددون في تسجيل مواليدهم بغير تواريخ ولادتهم الحقيقية سعيا لضبط التاريخ مع سن الالتحاق بروضة الأطفال. وتذكرت عادة إخفاء شهادات ميلاد الفتيات في الريف واللجوء لحيلة تقدير أعمارهن عن طريق كشف طبي ملفق على الأسنان "التسنين" لإثبات أعمار أكبر تسجل في وثائق الزواج الرسمية التي تشترط سنا معينا.

وتذكرت عادة كتابة قائمة المنقولات قبيل الزواج، وكيف يدون فيها البعض مشتريات الزوجة بأضعاف ثمنها إعضالاً لزوج المستقبل، وكأن القائمة الثقيلة ستضمن وفاءه وحسن عشرته.

وتذكرت وتذكرت وانقبض صدري. وتراءت لي كل هذه الممارسات غشا صرفا لا عذر له. معاول هدم تقوض مساحات الثقة والأمان بين الناس، وتقيم مكانها جدرانا عالية من التوجس والمحاذرة والتخوين الدائم. فتتعقد كل معاملاتنا بحجة ضمان عدم التحايل. فضلاً عن تجاوز القوانين والتنظيمات الذي يجعل الفوضى وغياب العدالة شعارا لكل نواحي حياتنا.

أحزن وأفكر بأسى: ربما يبالغ الرجل وأصدقاؤه على فيسبوك ويميلون إلى التعميم، وأنا لا أحب التعميم طبعا، وصحتي لا تتحمل كل هذا الواقع بصراحة. فلتعيدوني بالله للصوبة الزجاجية حالا!
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى