الصداقة بنكهة افتراضية

الصداقة بنكهة افتراضية

04 فبراير 2019
+ الخط -
لقد نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في غزو حياة النّاس، وأصبحت مع الوقت مصدرًا للبحث عن الأشخاص، وإيجادهم بسهولة من خلال أسمائهم أو صورهم أو أي شيء يدل عليهم، ودون مبالغة يمكن القول إن هذه المواقع باتت بمثابة بطاقات تعريف شخصية؛ بسبب المعلومات التي تحتويها عن مستخدميها، وقد تتعدى ذلك لتكشف عن خصوصياتهم وأدق تفاصيل حياتهم، وهكذا تشكّلت هذه المواقع الاجتماعية من عوالم بشرية مرتكزة على مجموعة من القواعد الإلكترونية.

لم يعد امتلاك حسابات شخصية في عالم مواقع التواصل الاجتماعي شيئًا ثانويًا، بل بات من أساسيات حياة الكثير من الأشخاص، ولا أبالغ إذا قلتُ إن معظم اليافعين عندما يتاح لهم استخدام الإنترنت، أوّل شيء يفكّرون فيه هو إنشاء حساب خاص على أحد مواقع التواصل الاجتماعي؛ بهدف التواصل مع أصدقائهم أو التعرف على أشخاص جدد، لينتقل مفهوم التعارف السائد بين الناس من الواقع الحقيقي إلى الواقع الافتراضي، والذي أثّر في طبيعة العلاقات الاجتماعية، وأظهر مفاهيم جديدة لها تختلف بالقيمة والمضمون عن المتعارف عليه بين الناس.


عند تصفح مستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لأحد حساباته فيها، سوف يلاحظ عدد الأصدقاء أو المتابعين الذين تبادل معهم طلبات الصداقة أو المتابعة، ومنهم بالطبع أشخاص يعرفهم في الواقع، مثل زملاء الدراسة والعمل، وقد يتبادل أيضًا طلبات الصداقة مع بعض مستخدمي هذه المواقع دون معرفة شخصياتهم الحقيقية، ومن هنا ظهر مفهوم "الصداقة الافتراضية" وهي تواصل شخص مع مجموعة أشخاص بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي، سواء بهدف الصداقة أو لتحقيق أهداف أخرى، وتتميّز هذه الصداقة بإمكانية اختيار الأصدقاء وفقًا لمعلوماتهم الشخصية، باعتبارها صحيحة وتنقل تصوّرًا حقيقيًا وواقعيًا عنهم بعيدًا عن الخداع الذي قد يستخدمه بعض الأشخاص، لإخفاء هوياتهم عن الآخرين بقصد المحافظة على خصوصيتهم أو تضليلهم.

لا تختلف الصداقة الافتراضية عن أي شيء آخر مستحدث من حيث الإيجابيات والسلبيات، ولكن تطغى فيها السلبية على الإيجابية؛ بسبب فقدانها لخصائص الصداقة التقليدية، كما قد تكون بابًا لارتكاب الجرائم الإلكترونية، فغالبًا تفشل الكثير من علاقات الصداقة الافتراضية مع مرور الوقت؛ لأنها عادةً تبدأ بالصدفة، ثم يكتشف كل طرف فيها عيوب الطرف الآخر، ويفقد ذلك وجود أي توافق بينهما بعد ظهور الشخصيات الحقيقية للطرفين، وغياب المجاملات والكلمات المنمّقة أثناء التواصل، كما تتأثر هذه الصداقة بالملل والتجاهل الناتج عن أحد طرفيها أو كليهما لتنتهي مثلما بدأت بسرعة ودون مقدمات.

تظهر بوادر الجرائم الإلكترونية من باب الصداقة الافتراضية، باستغلال المجرم لهذه الصداقة بالتستر خلف ستارها، وإحاطة نفسه بجميع الوسائل التي تحميه من اكتشاف هويته، فيتعامل مع الضحايا بصورة طبيعية لتقليل شكوكهم وقلقهم تجاهه، وعندما يجد الفرصة أصبحت متاحة أمامه ينفّذ جريمته، والتي تُبنى عادةً على الابتزاز بسرقة الصور الشخصية أو المعلومات المالية، ثم تهديد الضحية ومطالبتها بدفع المال مقابل استعادة بياناتها، وعدم التسبب لها بأضرار مالية أو معنوية.

لا يمكن اعتبار الصداقة الافتراضية مشابهة للصداقة التقليدية، بل تختلفان عن بعضهما اختلافًا جوهريًا؛ إذ إن الصداقة الافتراضية تفتقر إلى أهم قاعدة في الصداقة وهي "الثقة" بين أطرافها، فمن الممكن بناء أي صداقة طبيعية خلال فترة قصيرة بواسطة القواسم المشتركة بين الأشخاص، مثل الهوايات أو طبيعة العمل أو أي صفات أخرى متشابهة، بينما من الصعب تحديد حقيقة وجود هذه القواسم عند الأشخاص في الصداقة الافتراضية؛ ممّا يجعلها غير مهيّأة لبناء ثقة بينهم، وقد تكون هذه العلاقة أقرب إلى التزييف والخداع بدلًا من الجدية التي تعتبر من السمات المميّزة للصداقة.

ينبغي قبل الخوض في تجربة الصداقة الافتراضية التفكير بالنتائج المترتبة عليها، فإن جمع الأشخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي بمسمّى "الصداقة" ليس إلا مغامرة يمارسها بعضهم من دون إدراك عواقبها وخطورتها على المدى البعيد، مع أنها تعتبر وسيلة عند مستخدمي الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للتعرف على أشخاص جدد مختلفين عنهم بالثقافة والفكر واللغة، إلا أنها تجعلهم يميلون للانعزال والابتعاد تدريجيًا عن بناء صداقات حقيقية، واستبدالها بنوعٍ مستحدثٍ من الصداقة، ليست إلا صداقة بنكهة افتراضية.