قلّة أدب!

قلّة أدب!

17 ديسمبر 2019
+ الخط -
لفت انتباهي ما قاله المؤلف الموسيقي الكفيف مصطفى سعيد في سياق تقرير بُثَّ عبر قناة بي بي سي بنسختها العربية في جواب عن سؤال حول مصطلح الأغاني الإباحيَّة في العالم العربي:

مصطلح الأغاني الإباحيَّة لم يظهر إلا في العقد الثالث من القرن العشرين قبل هذا كان هذا الغناء من جزئيات الرصيد الغنائي وكان يستعمل تثقيفا مرة وكان يستعمل تعبيرا في مرات أخرى. حَجْر التعبير عن المشاعر هو الذي أدى فيما بعد إلى الحَجْر على التعبير عن الرأي في طرح من السلطة إلى إملاء أن هذه الدولة يجب أن يكون عندها أدب، بمعنى الاستتار، بمعنى هذا الكلام الفاحش، لا يجوز، هذا المنع هو قرين النظم الاستبدادية التي ظهرت بُعيد الحرب العالمية الأولى. أنت ممنوع تعبر عن مشاعرك، ممنوع تعبر عن رأيك في الحكومة، ممنوع تقول رأيك السياسي في أغنية، ممنوع تقول مشاعرك الجسمانية، وتزيد هذه الممنوعات في المجتمعات التي تحكمها طبائع الاستبداد.

قياسا على رأي المغني والملحن المصري مصطفى سعيد والذي يحمل مصادفة اسم بطل رواية الروائي السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" سأشد عنان راحلتي مع مصطفى سعيد بطل الرواية وأعود معه في هجرة معاكسة من الشمال إلى الجنوب، ولكن إلى زمن آخر، وتراني سأسلك طريق مدينة البصرة في جنوب العراق في زمن أوائل القرن الثاني الهجري حيث كان يعيش عمرو بن بحر، أبو عثمان، المشهور بالجّاحظ، حيث ترك أكثر من مئة وسبعين كتابا. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحكام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم لدمامة وجهه ومرضه الطويل الذي اضطره إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. وما زال في علته إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 هجرية.


تعبث في كتب الجاحظ بحثا وتنقيبا فتجد صورا من "قِلّة الأدب" الشعبي التي تحكي بلسان فصيح حال المجتمع في زمانه قلّ نظيرها وقد قيدها في كتبه في سياق سرد جميل يخلب اللباب ويُحرك المشاعر المكبوتة في الإنسان. ويعلم الله أنني احترت في الصيغة التي تكون مقبولة في طيات هذا المقال، ولكنني اخترت على كل حال الألفاظ "الأكثر أدباً" في يومنا هذا، واستبعدت تسمية تلك "الأشياء" المخفيَّة، الحميمة، عند الرجل والمرأة على حدِّ سواء، بمسمياتها كما وردت في كتب التراث. ومن يريدها من القراء يجدها في مظانها. واسأل كيف استطاع الجاحظ رواية ما رواه في زمن كان أكثر حرية في التعبير من زمننا الأغبر هذا؟ كيف سنحت الفرصة للناس في التعبير عن مشاعرهم بهذه الأريحية ونحن اليوم نتلعثم لا ندري كيف نتدبر أمرنا.

كنت من سنوات مضت عند أحد الأصدقاء الملتزمين دينيا في مدينة دوما من ريف دمشق العاصمة السورية، أنظر في مكتبته الإسلامية الغنية لمحت على أحد الرفوف كتاب "المخلاة" لبهاء الدين محمد بن الحسين العاملي-من جبل عامل في لبنان- تناولته، وقلتُ لصاحبي ما لك ومخلاة العاملي؟ ورحت أقلب صفحاته توقفت فجأة عند ملحة، قلت لصديقي اسمع هذه:

جاء شحاذ إلى باب أحد الميسورين، طرق الباب، ففتح له رب البيت. قال الشحاذ:
-من مال الله.

أجاب رب البيت:
-أم العيال خارج البيت.

ردّ الشحاذ:
-اطلب شيئا آكله لا شيئا أنكحه.

غشي صديقي من الضحك وبعد أن عاد إلى رشده استحلفني هل هذا ما جاء في الكتاب أم أنني مؤلف الحكاية؟ أريته موضعها فاستغرب الأمر. كيف يكون ذلك في كتاب تراث إسلامي. قلتُ هون عليك يا صديقي كتب تراثنا الإسلامي التي تظنها رصينة رزينة متخمة بهذه التعابير والحكايات التي تعكس بصدق نمط الحياة الذي كان سائدا حينها، وستجد الكثير منها في كتب التفاسير والحديث والكشاكيل وكتب الأمثال ومرويات العرب وكتب الملح والنوادر وألف ليلة وليلة. وهي كثيرة عند الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والميداني في مَجمع الأمثال والراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء، وغيرهم كثير. وهذه الطبعات الحديثة من كتب تراث الحضارة الإسلامية في عصرنا هذا والموسومة أغلفتها بعبارة "طبعة مُهذبة" ما هي إلا حذف "قلَّة الأدب" هذه التي تخدش الحياء العام والتي تلتزمها الدول حيث تراها مُخلة بالأدب العام، والحكومات تحذفها حفاظاً على العلاقات الاجتماعية المؤدبة بين البشر في الدولة المُهذبة. وطبعا الناس في الشارع العام لا تلتزم هذا الأدب في حديثها اليومي فتراها تشتم الحكومات ورؤساء الجمهوريات والملوك والسلاطين بعبارات فاحشة لا نستطيع ذكرها هُنا على كل حال. ودعنا نكمل المقال على خير.

وجليس كتب التراث كحامل المِسْكِ إما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبا وقد وجدتُ عند الميداني في مَجمع الأمثال عالما غنيا من البشر الذين خاضوا في الحياة خوض مُدرك عارف بحقائقها. ولعل حكاية دلال وقومه تدل دلالة لا لبس فيها على سعة الحياة التي كتب عنها الميداني:

دلال من مخنثي المدينة، واسمه نافذ، وكنيته أبو يزيد، وهو ممن خصاهم خطأ ابن حزم الأنصاري أمير المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك، وذلك أنه جاء أمر الخليفة إلى ابن حزم عامله أن أَحْصِ لي مخنثي المدينة، فتشظَّى قلمُ الكاتب فوقعت نقطة على ذروة الحاء فصيرتها خاء، فلما ورد الكتاب المدينة ناوله ابن حزم كاتبه فقرأ عليه: اخْصِ المخنثين. فقال له الأمير:
- لعله أحص بالحاء.

فقال الكاتب:
- إن على الحاء نقطة مثل تمرة.

فتقدم الأمير في إحضارهم، ثم خصاهم، وهم: طويس، دلال، نسيم السحر، نومة الضحا، برد الفؤاد، ظل الشجر.

وجود هؤلاء القوم في بواكير المجتمع الإسلامي الناهض يدفعنا لتأكيد فكرة جوهرية وهي عندما ترافق الإسلام مع بنية حضارية قائمة اتسعت دائرة الحرية لتشمل العلاقات الإنسانية التي تحترم الآخر مهما كان هذا الآخر. ونحن هنا لا نؤكد صحة الرواية لأنها تقترب من صيغ الحكايات ولكنني أعتقد أن لها سندا في الواقع.

ويؤكد الباحث والمفكر العراقي هادي العلوي البغدادي في هذا السياق اندماج القيم الجاهلية مع المدنية الإسلامية الجديدة وكان لهذه القيم حضورها الفاعل في جميع زوايا العصور الاسلامية.

وقد توقفت الفعالية الحضارية للمدنية الإسلامية عن التطور مع القرن الثامن الهجري، ودخل العالم الإسلامي في استعصائه الذي لا يزال حتى اليوم. وتوقف الحضارة لا يمحوها وإنما يحولها إلى تراث. والتراث من الإرث الذي يعني موت المورّث مع بقاء ميراثه، بحكم أن الموت انقطاع عن الحياة وليس عن الوجود. ولما كانت الحضارة الإسلامية قد وجدت فالعدم لا يسري عليها، لكنها ماتت فخلفت لنا هذا الإرث الواسع. وليس الدين الإسلامي من مورثات هذه الحضارة لأنه الآن حي. والدين بجوهره مباين للحضارة فهو يعيش معها وبدونها.
عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.