الدارُ الوُسْطَى

الدارُ الوُسْطَى

21 سبتمبر 2018
+ الخط -
في المنطقة النارية من جسد الأرض حيث تمور الديار العربية، تنتعش حمَمٌ متلاطمةُ الألوان والأنفاس والمقادير. يخطُّ تفاصيلَ حِممها اسْترقاقٌ أصَّلَ معناه ومبناه بشغفٍ ووصْمٍ وضرْبٍ خرافي. يلْفِظُ نفسَه في كل شقوق الذات والحياة والمصير. قاتلَ عزّةَ الأرواح، وطلاقةَ الأشواق وصفْوَ السرائر. نشر جندَه بكل جسد يسري على الأرض ويخفق بين تفاصيل الحياة. فنَسَخَ العقلَ عن دائرة البرهان، وصفَّدَ طرائقَ التفكير، سبَى أسطُرَ التحرير واستوطن الكلمات في منابت التعليم.

تَضِلُّ لقمةُ العيش الطريق إلى الديار العربية، وتنخطف خيراتُها، يصرفها المستبدون وأذنابهم إلى أفواههم المسودّة، ويهْنَأُ فِيهُ الشعب بضنك الأبد وجميل الحرمان، بحلاوة الفواتير ورقصة الأسعار. يغرق الكادحُ في قسوة كَبَدِه، يجترّ لحظاتِ عمره في يَمِّ السؤال، يتدحرج بين أقطابه الموصدة أبوابه. تعتقله التساؤلاتُ والتخمينُ عن قِدْرٍ يلتهب في الفراغ، عن داءٍ قد يسكن عظامَه والبلسمُ منيعٌ، عن ابنٍ ارتطم مستقبلُه بالرِّفَاف حيث شهاداتُه تنصت لصمتها ووحدانيتها. يمكث الكادحُ سَجِينَ سُؤلِه، يتردد بين أسطرِ خيالاته، يصفعه ثم يصفعه إلى أن يمتص وميضَ الحياة من وجنتيه، من شفاهه، من نَفَسِه ومن قنطرة دنياه.
في استرقاق الكلمة.. كلُّ حروف الهمس والجهر مُدانة. كلُّ رسمٍ، نَظْمٍ ساءل الحقيقة مرقومٌ عند حُرّاس عُتاة وقلعة نارية.


استرقاق الجسد.. جسدُ العربي ليس ملكا له، إنْ وَلَج بوثقة الحركة صار مِلكَ جلاّدِه، يفتّت أرقَّ شعرةٍ في بنيانه ثم يعدم فُتاتَه. يسرقه من الدنيا ويزجّ به في غَياباتِ جُبٍّ لا وجود له على خريطة الناس لأن مولجه الخفَاء وطعمه من شجرة الزّقّوم.
استرقاق الهِمَم.. تتدثر الديارُ العربية بعِطافِ اليأس والإحباط، وينكمش وعيُها في ميثاق السلبيات. تحدّق عيونُ أملِها في الفراغ وتفقد الإشارة والرعشة والرجة وكل مفردات الحركة معانيها.

ويتغنى الاسترقاقُ بأنشودة الديمقراطية المذبوحة عند أعتاب قصوره. يمتطي الحاكم المستبد خيْلَه البهيَّ ويزهو في ترحاله بين شقوق الديار ويبتهج بالأشباح الطريحة في ممرّاته، يبارك صنيعَه الديمقراطي ومَرْضاةَ الأشباح. وحين ينبعث أحدها من فراغه ويشب عن طوق زغرودته، يغضب الخَيّالُ وتتعثر مرضاتُه ويجِلُّ رهبُه، فيقصف أشباحه الطريحة منها والقائمة. يرفع الحدودَ عن ترابه ويدعو الغرباء والحاقدين والمتصهينين إلى وليمته الدموية، ليشدّوا عضدَه، ويجبروا جبنَه ويعدموا أبناءَ جلدته. ترتوي قصعتُه دماً وتصير كرسيَّه المعشوقَ المُرتَجَّ على ضفاف الدماء. في قصفه الجنوني يهرول الجميعُ في النزيف والزنازن والمشانق، ويختلس الموتُ المعنى من الحياة.

وتَمِيهُ الديار العربية برقعة النَّوازل ورَتَابة الأيام. تَأْلَف نقراتِ الفقر والظلم، فتنصرف عن الحقائق الضرورية إلى قوقعة العلل الاجتماعية والسّفاسف الخاوية، ويصير القيلُ والقالُ والضغينةُ فَواتِحَ الحياة، تتصدّع الجدرانُ والأواصرُ، تنغلق الأفئدةُ، وتستبد لعبةُ الإيذاء بالفُرقاء مبتدعةً في رصّ فصولها وصفوفها.

استرقاق نَبْض الأمة.. يشْطُرُ جدران الديار العربية شَطْراً، ويذكي انشطارَها ليقرأ الهزيمةَ على أشلائها، يسحبُ القضيةَ المقدسة من خَلَدِها، يحتال على وجدانها وينسخ ذكرَاها، يعلّمها أن فلسطين ما عادت فلسطين، وأن القدسَ بإجلائها تنكفّ الدماءُ وتسْلم الأوطان، أن هَمَّ الداخل أجَلُّ من همِّها، وأن الدار الوسطى تصيّرت رماداً بحروف عبريّة!

يشاء الاسترقاق أنْ يقْصِمَ الحبلَ ويشرخ النَّفَسَ الواحد، أنْ يسرقَ القضيةَ ويمزّقَ أوْصالَها، يفتّتَ أكبادَها وبفُتاتِها يرصّ الهيكلَ عربونَ امتنانٍ لبني صهيون.
وسط هذه الحمم، يحترق نصيبٌ من وَصْلِ الكادحين بأقصاهم، ينتفون عن السبيل إلى دارهم الوسطى ويتيهون في توهانهم ويعتكفون بمآسيهم ويأسهم.

لكنّ مخطوطَ الاسترقاق ليس قطعة مملوكة لكُتّاب الاستبداد، ليس لأحد أن يقبض على دورانِ الأرض، زهورِ القمر، رشاءِ المطر، رفرفةِ الهواء، على خلود القرآن وعلى وجدان الأمة!
حين يَفْقَه الكادحون والمستضعفون أن الجاثمين على صدورهم يغتالون القدسَ وينصرون صهاينتهم لِبَثِّ الروح في كراسيّهم، حينها سيفقهون أن القدس وطنُ عزِّهم وأنْ لا كرامةَ ولا عيش بدون مَسْراهُم، وأن الدارَ الوسطى مصيرُها من مصيرهم، عند حُسْنها تشرِقُ بسماتُهم، عند ثِقْلِها تنشدُّ هممُهم وتَهوءُ، عند جرحها تنزف دماؤهم، عند مركزها تدور أجسادُهم، جغرافيتُهم، تاريخُهم ومستقبلُ أيامهم، عند جدرانها تترمَّم جدرانُهم المشطورة بكيد الجلّاد.

بهذا الفقه تتحرر الديارُ العربية من ترسّبات المنطقة النارية وتنفض السفاسفَ وفصولَ الاسترقاق إلى منطقة الهذيان، لتستعيد روحها الظمأى المترامية في جدب الحرمان والهوان وتعانق الرواء المصفد بجدران الدار الوسطى. ويفقه الظمأ أن المروَى رهينُ التحرير!
قطْبُ الرّحى في استدارته تمُورُ الجِراحُ والأماني، العذاباتُ والإشراقات، أسرارُ الخفْضِ والارتقاء، الخطيئةُ والإنابة، الجدبُ ويَنَعُ الزروع، لَفَتاتُ اللحظة وأجراس الحقيقة، رَوامِسُ الهزيمة ورَواءُ اللهب، الشتاتُ وتآلف المقادير، عروبة الدار وإسلامها وإنسانيتها في وجه الصهيونية.

جميلٌ أنتَ يا قُطْبَ الرّحى ومَليحَةٌ أنتِ أيتها الديارُ العربية في دوران الحياة، والشرف، ووحدة المصير ومسْلَك الانتفاضة!

F338770F-139D-4848-8F33-0DCE0184640B
زبيدة صالحي

من مواليد وجدة في المغرب، ومقيمة في باريس... حاصلة على دراسات عليا تخصص اللغة عربية وآدابها.

مدونات أخرى