خمسة أيام في مخيم الزعتري

خمسة أيام في مخيم الزعتري

29 اغسطس 2018
+ الخط -
كذب من قال "إن الوطن يستوعب الكل"؛ لو كان كذلك لما خرجت تلك الملايين تاركة وراءها الوطن، ولو كان الأمر كذلك فلماذا خرجت أنت منذ سنوات..؟! الوطن الذي تحكمه طواغيت لا يمكن أن يستوعب الأحرار، لكن عبيد المال حتى مزابل التاريخ تستوعبهم.

لم أكن أدري قبل زيارتي هذه لمخيم الزعتري أن عين الصحافي تختلف كثيراً عن عيون الآخرين، هي ليست زيارتي الأولى؛ لكن هذه المرة عيني كانت تبصر شيئاً آخر لا يمكن للكلمات والعدسات أن تنقله لرواد المواقع الإخبارية والصحف.

التجربة هذه المرة كانت تقضي أن أقيم خمسة أيام في زيارة الأقارب هناك، لذا كان علي أن أعيش جزءا يسيرا من حياة أقاربي وأهلي في هذه البقعة الصغيرة المليئة بالمآسي وقصص الموت.

على مشارف محافظة المفرق التي تحتضن مخيم الزعتري ارتسمت المأساة الأولى، حرارة الجو مصحوبة بعواصف الغبار الصفراء والرياح الحارة الجافة، أما على البوابة الخارجية للمخيم فكانت المأساة الأخرى، إذ كان علينا أن نمشي مسافة أكثر من كيلومتر تحت حرارة الشمس الحارقة والغبار للوصول إلى البوابة الثانية ودخول المخيم، هذه الأمتار كانت جزءا بسيطا من "المشاوير" التي يجب على كل فرد في المخيم أن يقطعها يومياً، إما سيراً على الأقدام أو الدراجة الهوائية.


لم يدم الوقت طويلاً حتى أصبحنا داخل المخيم، وعند البوابة الثانية يستقبلك سوق طويل، ففي هذا المخيم سوق يمتد لمسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات مليء بالمحال التجارية والمطاعم، لكن هنا للمحال شكل مختلف؛ فقد صممت من ألواح التوتياء ويصبح داخلها أشبه بـ"فرن" مع انقطاع الكهرباء طوال النهار لذا من الطبيعي أن تدخل لأي محل في منتصف النهار، وترى العرق يتصبب من جبين صاحب المحل، بل غالباً سترى منديلا من القماش ملفوفا على رأسه مبلولا بالماء يحاول من خلاله تخفيف الحرارة ومسح قطرات العرق.

في كل الوجوه هناك كنت اقرأ شيئاً واحداً، شيئاً من الألم الكامن في الجوف، لكن أي جوف ذلك الذي سيتسع لألم الوطن والفقد والغربة، لذا كان حتماً لهذا الألم أن ترتسم ملامحه على الوجوه حتى لو جاهدت في بسماتها.

شيء ما في داخلي كان يشجعي لأعبث قليلاً وأحاول فتح أحد تلك الدفاتر، لماذا كل الألم بل حتى ما حجم هذا الألم، ولا أدري لسوء حظي أو لحسنه لقد فتحت دفتر رجل حاول المرض كتم صوته، ثم قضى الموت بسهم على كبده، وجاد السرطان أيضاً بسيفه على رجل عجوز، وهل لصحافي شاب بعد ذلك أن يسأل عجوزاً عن الألم وحجمه؟! خشيت حينها أن يشعر الرجل أني لا أعرف معنى الألم قررت الصمت أكثر، وأكتفي بطأطأة رأسي وهزه كلما عصفت دموع الذكرى في وجه ذاك الرجل.

لقد اجتمع الموت والمرض والظلم والغربة والفقر على رجل عجوز، شيء ما بداخلي كان يقول: لقد فتحت دفترا بحجم مشاكل الوطن، وارتكبت حماقة حينما قررت السؤال عن حجم الألم، فعبرات رجل حوراني أمام ابنته الشابة أمر ليس بالسهل، لقد كسرت قلبان.

في هذا المجتمع الحوراني المحافظ والمتمسك بعادات تناقلتها أجيال، هناك قواعد ثابتة إلى حد الأساطير، من بينها ما يحرم على الرجل دموعه، ولا سيما أمام أنثى حتى لو كانت ابنته، فصلابة الرجل تعطي قوة للأنثى.

في مساء اليوم التالي، أثناء سيرنا في السوق ألتفت يمنة ويسرى على المحال التجارية وكيف صنع هؤلاء هذا السوق من شيء بسيط قد لا يخطر على بالك، من بعيد صوت لحن أغنية يشدني إليه بقوة، إنها أغنية لعبد الحليم حافظ، أعرفها وأذكرها جيداً "ستفتِّش عنها يا ولدي في كل مكان، وستَسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن، وتجوب بحاراً وبحاراً، وتفيض دموعك أنهاراً، وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجاراً" أقترب أكثر ثم أتوقف أمام المحل "وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان" هذه المرة للأغنية معنى آخر لم أسمعه أو أفكر به من قبل.

هل نفتش عن حريتنا المسلوبة، عن وطننا الضائع في حروبهم، عن الأمان المفقود، وأين سنفتش هل بقي في الأرض موطئ قدم لم تدوسه أقدام السوريين، وكيف سيكبر حزن ذلك العجوز أكثر من الموت والمرض والفقدان والظلم والغربة، وكيف سيصبح أشجاراً، هل نورث حزننا للأبناء، ألا يكفي ما حملناه نحن من حزن وألم، هل سنتوارثه كما عادتنا...؟!

أما ذاك الحزن الذي كنت أقرؤه في عيون الجميع لقد لخصه عبد الحليم في قوله "سترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان" وهل هناك أثقل من أن يعود الإنسان مكبلاً إلى جلاده، إلى قاتل أولاده وهاتك عرضه، نعم جميعهم كانوا يخشون العودة إلى وطن تحكمه عصابة.

بعد كل ذلك أصبح عليَّ أن أعود إلى مكتبي الواسع والمكيف وإلى كرسي مريح وفنجان القهوة والغداء، وأكتب قصص أولئك المساكين الذين حملوني أمانة نقلها. لقد تذكرت قول غسان كنفاني "أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين.. كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فهم أولئك الذين يكتبون في الجرائد يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها".
809DA632-AF3E-409D-9FE0-3C85DAEC147E
وليد النوفل

صحافي سوري من محافظة درعا جنوب سورية، أقيم حاليا في العاصمة الأردنية عمان، أسعى إلى تسليط الضوء على معاناة أبناء شعبي عبر نشر تقارير وتدوينات تروي ما يحصل في وطني محاولا نقل الصورة الأقرب للحقيقة والواقع.