أَهْلُ الجِرَايَة

أَهْلُ الجِرَايَة

02 اغسطس 2018
+ الخط -
أتتِ الثورة.. انتفضتِ الجَرَّةُ وانْطَرَح الخِمَار.. انتثرت حبَّاتُ اللّوْزِ، فأدركتْها الرُّمُوشُ بِهَمْسِ الرَّفِيف.. أَسَالَت شفتاها نَبْعَ السردِ المقدسِ، وانْفَلَتَتِ الروايةُ رَجَّاسَةً رَثَّاءَةً رَابِغَةً رُؤْداً في طَوَفَانِ الشّامِ العتيق.

ارْتَدَّ الخَصْرُ عن الطَّوْق وتَدَثَّرَ باللَّمْسِ الرَّطِيب، اسْتَطَابَ الوعْدَ الشّهي ولَفَظَ نفسَه في رَقْص الاجترار. القَدُّ خَفِرٌ، الظِّلُّ هَفَّافٌ، الشُّفَيْهَةُ شُقَحِيَّة، القلبُ هِزاعٌ، السُّهامُ سَتِيرٌ والرِّيدُ هَزْهَاز..

تَوَرَّقَ الخَطْوُ على سِرَارِ الأيامِنِ، سِرارِ الصَّيْدَاء. تَلَحَّفَت نقراتُه بروحانية الحجر ورَطابةِ الهوى، صِحابَتُهُ صُفْنٌ وبندقيةٌ، بِكَفِّهِ الخَضَادُ.. شَيَّعَ اللّوْزُ أريجَهُ حُرّاً بَلِيغاً عزيزاً راوياً سرَّ بلاغةِ أمرٍ أسماه اللهُ: الحرية! شرْعِيَّتي يكتبها خطوي حين يغازل ذراتِ ترابٍ تَشَمَّلَت بالدماء تَشْمِيلا. شرعيتي سِدْرٌ مَخْضُودٌ على كَفِّي يسجُدُ، ينتفضُ، كرُمْحٍ خَطَّارٍ، إلى الشمس يهفو ويصطبر. شرعيتي حَبَّاتُ قمْحٍ تَزّيَّنَّ بجلال السنابل الأزلية، تَموج السنابلُ في عليائها، ويَطيب ريحُها كَخَوْدَاتٍ تُلَفْلِفْنَ حِسَّ العاشق في صفوة الامتلاكِ.


شرعيتي طَفَالَةٌ تبعثرت بين طُهْرٍ ومَسْكَنَةٍ شَيَّعَها الخِباثُ في فلك الديوان الدموي ومثَّلوا بجثتها النبيلة.

شرعيتي كلمةٌ شاميةٌ أخلقها خَلْقاً سَوِيّاً، تخلقني خلقاً سوياً، تستفز الرَّبِيعَةَ، فتنشطر الربيعةُ وتنفطر، كلمةٌ شاميةٌ تضرب في الأرض مَدَدًا، رَوْشَمٌ على كل خَدٍّ مَرِيدٍ تَوَسَّدَ نُبْلَ الشِّهَام. أَرُفُّ شفتيها، صَرَاني ريقُها رَخَافَةَ العَزْمِ وقد هزَّتِ المذبحةُ اليقين.

بيني وبينكِ خَطْرَةُ رَحِمٍ رَفَّتْ رَفَّةَ المُتَبَتِّلِ زمن الأسحارِ، غرقتْ في رَجَّةِ الاعتلاءِ، تُشافِهُها أََنّاتُ الرِّمامِ.. تعرج المشافهةُ إلى السماء، تُبارِكُها المَرْحَمَة، تزداد ازهراراً وتَرَقُّقاً ونبلاً، تُوَرِّدُ في قلب الغصون. يسجم الدمعُ في جوف الجِرار ويسجد أحبابُ الله بين حبّات الرملِ وعند سدرة المنتهى.

سَجَعَ الشاميُّ للثورة، مَنْ غيرُ نَزِيل الرّحِمِ ينتصر للأم، يصون العِتْرَة، يطعن العدو ويضرب في الأرض عند النقمة وعند المفخرة؟

وَرَفَ الظلُّ دَفِيئاً وتَشَمَّلَتْ تَعَارِيقُ الهوى بدمٍ سيّالٍ جاد به الغيارى الصَّوافِنُ. توجَّعَ الظلُّ وارْتَدَّ مُرْتَجّاً كمُوَيْجَاتٍ أَعْياها تَلاطُمُ الأيامِ وأَرَّقَتْها سُدْفَةُ الباطل فانسحبت إلى التراب الظَّلِيم.

حَوَّطَ الفُتَّاكُ ترابَ الحب حقداً وقد رأوه يغني رسائل الكرامة وتسابيح الشرف. نظم رسائله بلهفة التراب والإنسان.. تَصَافَّ صُنّاعُ الظلام ورشقوا تراب الحب بنيران العدوان. ارتوى التراب الشامي دماً، والمَرْوَى صِدِّيقٌ ما انحنى، وما أعدم النداوةَ في صدر سنابله الأزلية. لكنها شَمَالِيلُ النَّوَى، مَرَاوَى الباطلِ، زَرَقَتْنِي بِسُمِّ الهوى فَنَزَلَتْ مَنازلَ المُيُونِ، زافتْ فضربتِ الأعناق وساقت الرِّّقابَ إلى المشأمة. انشق من السُّرَاةِ أَلْفَافُ الهزيمة، تَلَبَّسوا الخَتَارَةَ ومَكْرَ الخِبَاثِ وتَلَحَّفُوا بالنقيصة والخَيْسَرَى، فكيف للثائر أن يمسيَ خَتَّارا؟!

انسلَّ الصدقُ هَزِيماً وشَقَتِ العيْنُ شَقْوَةَ الغَمَى. اغتالت الخطوةُ ظلَّها، وزايل الجفنُ رمشه. راشَقَ الكفُّ جلالَه، وانفضَّ القمرُ عن زهوره. تولَّتِ الخيسرى، ربَّةُ الطائفية، فصولَ المذبحة، وطوّقتِ الشَّنَآنَ بعَوْنِ أربابِ الصّهينة ووغد الأعراب. سُمٌّ لَفِيفٌ استوطن الفاخورةَ الدمشقيةَ، وأَسْطُرَ اشعارِ الريف وشقائق النعمان. لفظتِ الأحقادُ أثقالها، فدمَعَ الماءُ حزناً على طفالة تيتمت أو حليلة ترملت أو سنبلة عرجت إلى السماء وتغسّلت بالكوثر راجيةً طُهراً من بعد أيادٍ ببطشها تدنست.

وتحنُّ الشامُ إلى الشام، تفتش عن غِراسٍ تَوَرَّدَتْ سِرّاً في وطن الحنين. تتودّد إلى شهدائها بجميلِ الكَلِم. يتمرّد الحنينُ على عروش التنكيل، يتصيّر النَّسَقُ شواظي الباطل وتعز الثورة بالتراب الشهيد وبالدم العُذَابِ.

سَأَرْقُمُ في الماء رِسْلِي، سأرقم في الماء دمي، هَزْجِي ووعدي، وأصلُبُ صهينةَ الجميع بين تقاطيع التاريخ الفاسد.. سأرقم في الماء دَرْعَا وهزّاتِ العِدى، بوحدانيتها تتدثر بالموت فراراً من الموت. وبعدها، يَنْسَجِلُ الماءُ، وما مِن رادٍّ له، وبِطَوْفَةِ المقتدر يُشَيِّعُ شجرَ الغرقد إلى التيه، إلى الشتات، يُطهر الترابَ ويزرع زيتوناً وحَبّاً وحرية.

الشام رقعةُ البَيِّنَة، بين أشلائها يرقص شيءٌ اسمه الحقيقة، الحقيقة عن الأُمّة التي تتقاذف ذاتاً خارج الإيقاع ورقصها من وحي الوَهَن!

النَّارُ بتراب الحُبِّ تنزّلت.. أحرقت وتَكَوَّرت، كلما أعدمت قمحاً، روحاً، تهليلاً وتسبيحاً، بيتاً، خيلاً، قوسَ قزحٍ أو عطرَ عيونٍ شامية، كلما أعدمت نفسها وفتكت بسطوتها بأمر ظنته مُلكاً وانتصاراً! احترق بشّار! المستضعفون وحدهم يتلألأ ماؤهم.. القابضون على لحظة الاستشهاد، لحظة النزوح، لحظة الحياة والذاكرة الخالدة، وحدهم أهل الشام أهل الجراية!
F338770F-139D-4848-8F33-0DCE0184640B
زبيدة صالحي

من مواليد وجدة في المغرب، ومقيمة في باريس... حاصلة على دراسات عليا تخصص اللغة عربية وآدابها.

مدونات أخرى