تأملات في عربة الترحيل

تأملات في عربة الترحيل

21 ابريل 2018
+ الخط -
أنا يا أصحاب السعادة مواطن من "بلاد العرب"، لا تبعد كثيراً عنكم، ولا تبعدوا كثيراً عنا، وإن باعدت الشقة بيننا، وتنازع الأشقاء فيما بينهم، وبلغت القلوب الحناجر.

أنا في هالة صغيرة من وطنكم الكبير المقزم قبرتها الجغرافيا، وقهرها التاريخ، ونهش عرضها التافه والصغير، وتقاطر على جسدها النحيف المذنف الذئاب وكلاب الصيد السوداء.

عدت يا أصحاب السعادة قبل أن أستكمل دراستي في ماليزيا لإلقاء نظرة أخيرة على أمي التي فتك بجسدها النحيل المرض، وتكالبت عليها أوجاع الحياة فقررت أن ترحل في عتمة الليل.

كان الفقر والحصار يضرب أطنابه في غزة ومظاهر البؤس التي تخفي خلفها الكثير من التحدي والصمود ترسم ملامح أهلها الذين تخلى عنهم ذووهم وبنو جلدتهم وبنو عمومتهم. انتهيت من وداع أمي ولفها بثوبها الأبيض إلى حضن الأرض، ثم عزمت على شد الرحال إلى ماليزيا لاستكمال ما تبقى من مساقات الدراسة والشروع في أطروحتي التي بدأت أخط بعض فصولها بمساعدة مشرف من أهل البلاد يعشق فلسطين، ويطيب له سماع قصص أهلها وملاحمهم.

وفي اليوم التالي، حزمت حقيبتي وتوجهت إلى معبر رفح للوصول إلى مطار القاهرة ومن ثم الإقلاع بالطائرة إلى ماليزيا، انتظرت في صالة الزائرين ساعات وساعات ولم يكن أمامي سوى بوابة مغلقة بأقفال سميكة ومئات المسافرين يهيمون على وجوههم من طول الانتظار وقسوة الجو البارد الذي ألبسهم ثوباً أبيض غطى معظم لباسهم.

كانت البوابة تشبه بوابة السجن الذي حكى لي عنه جدي في طفولتي الباكرة، يخفي خلفه مقبرة جماعية من الأحياء عاثت جدرانه بأرواحهم بطشاً وقهرًا. شعرت بالاستفزاز من غلظتها وقفز إلى خاطري شبح غريب لكنه طيب يدفعني إلى الانقضاض عليها وتحطيمهاـ وبطول الانتظار بدأت الخاطرة تسيطر على كياني وتمضي إلى خيالي المفعم بالغضب. شاهدت في صالة الانتظار وعلى بوابتها وأطرافها نساء يحملن على صدورهن أطفالاً صغارا أمضين ليلتهن في العراء يفترشن الأرض ويلتحفن السماء.

وقع نظري على أم صنعت لطفلها الصغير من بعض ثيابها مدفأة علها تدفع عن جسده زمهرير الشتاء، ثم انحرف بصري وبلمحة خاطفة إلى رجل يحمل بيده كومة من الأوراق للعلاج في الخارج، بعد أن فتك السرطان بجسده ومزق أحشاءه.

لم يكن مظهر الرجل ووجه غريباً علي فبدأت أقلب شريط الذكريات وأنبش بعمق في ذاكرتي حتى هداني الله إلى يقين المعرفة، تذكرت أن هذا الرجل كان من أمهر رجال المرور في غزة، وأكثرهم مواظبة والتزاماً بعمله، وحب سائقي المركبات له، تذكرت أنه حصل على جائزة رجل المرور المثالي في العام الماضي واحتفى به الجميع من أبناء بلده لكنه اليوم تخلى عن زيه الشرطي وصافرته التي أحب سائقو المركبات سماعها وحمل أوراقاً كثيرة بعد أن غارت ملامحه واختفت خلف أورام فتكت بصاحبها وعاثت في جسده فساداً.

مع كل مشهد ترقبه عيناي وقصة تتهادى إلى سمعي يتملكني الكثير من التبرم والوجوم وشعرت بسكاكين القهر تقطع أوصالي وأحشائي حتى اقتربت الساعة من الثانية عشرة وإذا بصوت أكاد لا أصدقه ينادي فينا كي نستعد للسفر.

شعرت أنني في حلم عميق أو كابوس عابر وإذا بالموظف يناديني للسفر ويطلب مني بعض الأوراق للاطلاع عليها والتأكد من بطاقتي الشخصية، عاجلت يدي لساني وهوت الأوراق نحو الموظف كلمح البرق الخاطف، أخذ الموظف ينظر إلى الأوراق ويدقق في بطاقتي الشخصية ثم أومأ إلي بركوب الحافلة التي ستقلني إلى مطار القاهرة.

كانت الطريق أشبه ما تكون بثكنة عسكرية كبيرة تناثر الجند في كل حدب وصوب، وتناثرت عرباتهم على النواصي والمفترقات، أوقفونا أكثر من عشر مرات وعبثوا في أمتعتنا عشراً أخر، أنزلونا عشر مرات وأركبونا عشراً أُخر، وملامح التعب والإرهاق استحوذت على جميع المسافرين.

وقبل وصولنا إلى المطار بدقائق أوقفنا أمن المطار وأخبرونا بضرورة العودة إلى غزة بحجة أن الظروف الأمنية لا تسمح بسفرنا، حاولنا أن نتناقش معهم لإقناعهم بضرورة السفر خشية أن تنقضي الإقامات والجوازات والتأشيرات التي نحملها وتتشتت أسرنا وأطفالنا في الغربة، لكنهم رفضوا وأصروا على العودة.

أشار ضابط المطار إلى المسافرين بالنزول من الحافلة، وطلب منهم الركوب في حافلة قديمة لا تكاد ترى لونها من كثرة الصدأ الذي التهمها من الداخل والخارج، ركبنا وركب المسافرون بعد أن بلغ منهم العناء والتعب مبلغه ودهمهم النعاس من كل جانب، نظرت إلى عربة الترحيل من الداخل وإلى مقاعدها الممزقة ونوافذها الصغيرة التي لا تكاد ترى من داخلها نور الشمس وأطراف الصحراء المترامية وبحر الرمال العظيم الذي تلاعبت به العواصف وبعض البيوت المتناثرة التي هجرها أهلها وأصاب الكثير منها الخراب وصنعت منها بعض الحيوانات الضالة بيوتا لها، زاد ضجيج محرك الحافلة المتهالك والدخان الأسود المنبعث منها ألم المسافرين وكمدهم حتى تسلل الخوف إلى بعضهم من قسوة العربة وأسنانها المشرعة في وجوههم.

كان قلقي على ضياع العام الدراسي هما كبيرا أرق كياني وخشيتي من عربة الترحيل مقطعة الأوصال التي أصابها مرض والدتي ورجل المرور قد زاد من خوفي على حياتي وحياة المسافرين الذين أصبحوا رهن عربة بالية التهمها الصدأ والتقادم، وما هي إلا بعض دقائق على الخاطرة الأخيرة التي اجتاحت كياني وإذا بالعربة تتوقف عن المسير والباب يفتح والمسافرون ينسلون بسرعة غريبة. عندها تذكرت أنني كنت خلف قضبان سجن أشد مرارة من سجن بوابة المعبر، لكنه قدر أبناء العروبة أن ينتقلوا في أوطانهم من سجن إلى سجن ومن عربة مسافرين إلى عربة ترحيل.

دلالات

0129593C-65A2-4C3D-AA26-DD2357446546
معاذ محمد الحاج أحمد

كاتب وباحث فلسطيني عضو رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينية، له أبحاث في التسويق السياسي، يعمل لدى وزارة التربية والتعليم.