اللامتميز

اللامتميز

14 ابريل 2018
+ الخط -
عندما تفتح الجرائد اليومية تجد الكثير من الإعلانات التجارية عن دورات وبرامج تدريبية تقودك إلى التميز بكل ما تحمله من مهارات وخبرات فريدة.

تتصفح الإنترنت فتجد دعايات عديدة عن الدراسة في جامعات عريقة تفزعك أسماؤها، مثل جامعة هارفارد وجامعة أكسفورد، أو جامعات وهمية تمنحُك تعليماً عن بعد لا يُعترف به في كثير من الدول حول العالم، تُحيطك إعلانات الشوارع بالرغبة في الاستزادة من التعليم واكتساب مهارات عملية جديدة، أما شبكات التواصل الاجتماعي فتُحاصرك من كل الاتجاهات ولا تدع لك فرصة للهروب من الوقوع في فخ التميز عن طريق الدراسة أو الدخول في عالم الأعمال الخاصة المُفعم بالأرباح الخيالية.

يحُثك الجميع على أن تكون مميزاً بشكلٍ أو بآخر، مديرك في العمل يُرهق كاهلك بالأعمال كي يرفع من قدراتك الوظيفية، أقرانك في العمل يسارعون في الحصول على شهادات جديدة من حينٍ لآخر كي يسبقوك إلى مهاراتٍ جديدة لا تمتلكها أنت، وبالتالي يكونون أجدر منك بالترقيات والحوافز المادية.

أصدقاؤك يروون لك قصص نجاحهم في العمل وفي حياتهم الشخصية، فتجد نفسك في سباقٍ لست مستعداً له، زوجتك تُخبرك بأن زوج فلانة اشترى بيتاً أو أصبح صاحب عمل ما فتضعك في سباق مع زوج تلك الفلانة، ما يُحتم عليك تحقيق انتصار ما كي لا تشعر بأنك لست مميزاً، الجميع يدفعونك بلا هوادة إلى حافة التميز، ومطلوب منك يا هذا أن تسابق الجميع في كل ما تميزوا فيه وإلا استصغرت نفسك واستحقرت إنجازاتك غير المتميزة!!!

اليوم، أنت موضع اهتمامي يا أيها اللامتميز، أنا أدعوك للاعتراف بعدم تميزك عن غيرك وأصارحك بأنك لست الأفضل في كل شيء كما تود أن تكون، فلربما لا تتميز عن غيرك بشيء ما، ولم تكن يوماً الأول على صفك الدراسي أو الموظف المثالي في عملك، أو الزوج الأفضل في وسطك الاجتماعي، دعك من كل هذا واعترف بعدم تميزك، فلست مجبراً على أن تكون الأفضل في كل شيء أو أي شيء، هؤلاء يُرهقونك ويحاصرونك ويضغطون عليك ولا أحد فيهم يُشاركك معاناتك في طريق البحث عن التميز.

أنا لا أدعوك إلى الكسل أو الفشل أو التراجع عن طريقٍ نشدت فيه التميز، ولا أقول لك لا تبذل جهداً في عملك ودراستك وحياتك الشخصية، أنا أحاول أن أنقذك من تبديد جهدك وتضييع وقتك في مسارٍ إجباري لست مضطراً إلى الولوج إليه.

أعرف كثيراً من أصدقائي التحقوا بدورات تدريبية لا تمت بصلة إلى أعمالهم أو تخصصاتهم الدراسية، ولكنهم وقعوا فريسة لتحفيزٍ ما لكي يكونوا مميزين عن غيرهم، وفي الوقت ذاته هم بحاجة إلى تطوير أنفسهم في مجال عملهم الأساسي، وذلك صديق لي وقع ضحية لدعاية ما وأوهم ذاته بإمكانية الربح السريع، فوضع كل ما يملك من مال بل واستدان للبدء في تجارة إلكترونية ومضاربة في العملات الرقمية بهدف الربح السهل والسريع للتميز عن غيره مادياً من دون إدراك لخطورة ما يفعله.

النتيجة هي التشتت والتقهقر للخلف في شتى المجالات، لأن فشلك في جانب من الحياة ينعكس على كل جوانب حياتك المثقلة بالأعباء والالتزامات، أدرك تماماً أن التميز غريزة إنسانية منذ بدء الخليقة، فإبليس سعى إلى أن يتميز عن آدم ورفض تفضيل رب العالمين لآدم، ومن ثم سلك مسلكاً لا عودة منه وعاقبته معروفة للجميع، من حقك أن تتميز عن غيرك ولكني أردت فقط أن ألفت انتباهك إلى ضرورة الرفق بنفسك، فلست مضطراً إلى أن تتميز في كل شيء لمجرد أنك رأيت فلاناً تميز في مجالٍ ما، ولا تكن ضحية لدعاية ما تورطك في شيء لست في حاجةٍ إليه أو لست قادراً عليه.


أيها اللامتميز، عليك إدراك أن المجتمعات الحديثة تدفعنا جميعاً للتناحر والمنافسة لزيادة الإنتاج وأغفلت عن عمد الفروق الفردية بين البشر في حين أدركها السابقون ولم يحشروا مجتمعاتهم في زاوية التميز. لقد شدد أفلاطون ضمن أهدافه الأساسية في جمهوريته المثالية على أن يكون لكل فرد عمل خاص يناسبه، وأدرك علماء المسلمين أهمية الفروق الفردية، وقد ظهر هذا واضحاً في كتاب "المدينة الفاضلة" للفارابي، كما جاء على لسان الأصمعي: "لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإن تساووا هلكوا".

وفي العصر الحديث، اعتقد روسو أن للطفل قدرات فطرية عند الولادة وأن الإنسان يجب أن يحترم النمو الطبيعي لهذه القدرات، ولهذا ظهر علم نفس الفروق الفردية أو علم النفس الفارقي الذي يهتم بدراسة الفروق السيكولوجية بين الأفراد، أو بين الجماعات، أو بين المجتمعات والسلالات، أو بين الذكور والإناث، سواء في مجتمع بعينه أو في البشرية بصفة عامة، مع بيان عوامل هذه الفروق وأسبابها النفسية والاجتماعية والبيئية والوراثية. ولذا، فعلم النفس الفارقي يهتم بقياس هذه الفروق والتنظير لها وتبرير ظهورها تبريراً علمياً مدروساً وظهر ذلك بوضوح في كتاب "علم النفس الفارقي" لشترن في عام 1900.

فيا أيها المعلم، رفقاً بتلاميذك ولا تصنع بينهم صراعاً محموماً لارتقاء سلم التميز وأنت تعلم في قرارة نفسك أن الفروق الفردية لا تسمح لجميع التلاميذ بالتفوق في نفس الشيء بنفس المستوى.

ويا أيها الأب، رفقاً بأبنائك ولا تدفعهم في سباق غير عادل، وتطالب الجميع بالتفوق في كل المجالات وأن ينتصر كل منهم على الآخر كي تحقق لنفسك فخراً اجتماعياً على حساب أبنائك.

ويا أيها المدير والمسؤول، رفقاً بموظفيك ولا تصنع بينهم حرباً ضروساً لنيل المزايا الوظيفية وتُفقدهم روح العمل الجماعي والود الإنساني، كي تحقق لنفسك مجداً إدارياً ونتائج عملية غير مسبوقة.

وأخيراً، يا أيها اللامتميز، لا يغرنّك هتاف القوم بالتميز، فأنت بالفعل متميز في شيء ما ولست في حاجة إلى إثبات ذلك طوال الوقت، ولا تدخل معارك حياتية ليست لك ولست في حاجة إليها، ولكن عليك اكتشاف ذاتك بذاتك، واصنع تميزك لنفسك بنفسك من دون ضغط اجتماعي أو صراع نفسي.

تحية إلى كل اللامتميزين في كل مكان، اثبتوا على ما أنتم عليه، ولا تَدعوهم يغررون بكم بدعوى التميز.

5677A2D5-FAEC-4414-BEEB-F3CDFE0BCA68
محمد خالد

مدون وكاتب استقصائي مهتم بالشأن العام.يقول: أحب الكتابة لأنها تعطي لحياتي حياة جديدة.

مدونات أخرى