عندما يحلق الموت على الأغصان

عندما يحلق الموت على الأغصان

21 مارس 2018
+ الخط -
لم يتمالك الطبيب نفسه في مقابلة على الهواء مباشرة، فتدفقت العبرات على وجنتيه كشلال يفيض بالماء من هول ما شاهده، معجزة في زمان قالوا إن زمن المعجزات قد انتهى، وزمن الوحي قد انقضى..

مشهد رهيب لطفلة سورية أصيبت بجروح حرجة، في غارة جوية لطيران بلادها على بيتها المتواضع. يجري الطبيب عملية جراحية معقدة للطفلة البريئة المكلومة مقطعة الأشلاء والأوصال، دون تخدير بعد نفاد البنج من المستشفيات الميدانية. تقرأ الطفلة القرآن بصوت عذب، والطبيب يجري لها العملية، دون أن تصرخ أو تبكي، وتمضي في الترتيل بكل خشوع وبسالة حتى وضعت العملية الجراحية أوزارها.

لا يدري الطبيب ماذا يقول؟ ومن أين يبدأ؟ وعن ماذا يتحدث؟ فقسمات وجهه وصمته، ثم همسه وكأنه في حالة من انعدام التوازن الأقرب إلى النوم العميق يشي بما ينتاب هذا الطبيب من مشاعر الصدمة وجموح الخيال، لكنها الطفلة التي لم تتجاوز الحادية عشرة ربيعا، انهارت عليها جدران منزلها، ولم تسقط أحلامها..


هي ببساطة قصة جديدة من قصص الملاحم التي يسطرها أطفال سورية على مدى سبعة أعوام من التضحية والاستهداف. يقول الطبيب: "لا أعتقد أن الطفلة كانت تشعر بالألم، كانت منهمكة في قراءة القرآن، ولم تنقل أي شعور في مراكز الإحساس يوحي أنها بحاجة إلى تخدير، وهذا ما أثار دهشتي كثيرا. كنت أمام صدمة إنسانية ستجعلني أضع الكثير من المعتقدات محطا للتساؤل والنقد".

ولما شاهدت الطبيب قد أوشك على الانتهاء من خياطة جسدها الرقيق، رفعت رأسها سائلة: أين أمي؟ أين أبي؟ أين إخوتي وأخواتي؟ هل ما زالوا على قيد الحياة؟ أريد أن أرى يد أمي الناعمة، وصدرها الحاني، وقلبها الدافئ. أريد أن تتكحل عيناي برؤية أبي ليحملني على كتفيه، ويضمني إلى صدره، ويضع في فمي الحلوى. أريد أن ألهو مع إخوتي لنسرح معا خلف الشفق الأحمر، ونمسك أطراف الريح ونمضي فوق الأرض وعلى جنباتها.

لم تدرِ الطفلة البريئة أن أسرتها قد ذهبت في رحلة جماعية إلى عالم خلف الشفق الأحمر بآلاف الاميال، ولن تعود من رحلتها الطويلة، بعد أن غادروا جميعا إلى عدل الله ورحمته. لقد رحلوا من طغيان بشار، وظلم إيران، وكفر روسيا، وجور عالم لا تحرك إنسانيته وضميره مشاهد القتل والدمار.

لم تدرِ الطفلة المولعة بأهلها أنهم يبيتون جميعا في قبر واحد في حديقة منزلها الجميل، بعد أن حلقت طيور المنايا على الأغصان، وسكن الموت الجدران، وغابت الشمس في الأفق البعيد.

يا لعتمة الليل وظلمته! يا وجع الأيام وقسوتها! من يجيب الطفلة المكلومة؟ من يخبر الطفلة أن أهلها قد استشهدوا دفعة واحدة، بعد أن أبى سفاكو الدماء أن يقتلوهم بالمفرق؟ من يخبر الطفلة المسكينة أن أهلها لم يمارسوا حقهم الشرعي في الموت، والدفن في مقبرة القرية من ضراوة القصف، وتناثر أشلاء الضحايا في كل زقاق، وعلى أغصان الزيتون، وباقات الورد الحمراء.

قد يكون المصاب أقل قسوة على هذه الطفلة التي تحمل في صدرها قلب رجل عظيم، عندما تعلم أن أهلها كانوا أوفر حظا من غيرهم، بأن أنعم الله عليهم بمن يحفظ لهم كرامة الموت، وينبش لهم قبرا جماعيا في حديقة المنزل، قبل أن تلتقط جثثهم وحوش الغابة والحمر الوحشية، لتمثل بجثثهم، وتلتقط معها صور السلفي، أو تعزف على أشلائهم الممزقة نخب الوطنية.

كنت أشعر بالحسرة على جمال الطفلة المسلوب، ونبل قلبها، ونقاء كيانها. لقد كانت رغم جرحها النازف الدامي قطعة من القمر، تضيء بعينيها الزرقاوين الصافيتين عتمة الليل، وتراقص بشعرها الغجري المجنون أنغام الريح. هي قطعة من فسيفساء الشرق، ولوحة من ياقوت الغرب نسج حروف الجمال فيها خالق ومصور عظيم. لم تعلم اللؤلؤة الشامية أنها ضحية حكام يركبون اليخوت، ويشترون القصور، ويقتنون اللوحات الفنية الفاخرة، ويحاصرون أهلهم في شهر رمضان، ويمنعونهم من الحج في ذي الحجة، لكني كنت على يقين أن هذا القلب العظيم سيعلم كل شيء، عندما ترى أن أهلها يسكنون جميعا في بيت تحت الأرض في حديقة منزلها الجميل.
0129593C-65A2-4C3D-AA26-DD2357446546
معاذ محمد الحاج أحمد

كاتب وباحث فلسطيني عضو رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينية، له أبحاث في التسويق السياسي، يعمل لدى وزارة التربية والتعليم.