وهم الشرعية... وأوهام الاصطفاف

وهم الشرعية... وأوهام الاصطفاف

04 أكتوبر 2018
+ الخط -
كلما تباعد الزمان ومر الوقت ينسى الناس، وكلما زادت الضغوط وكسرت الأضلع تهن القوى، وكلما تلونت المساومات وارتسمت كأطياف الجنيات الطيبات في الحكايا يحار الحليم.. تختلط الحقيقة بالوهم، فيظن الظمآن سراب الكلام ماءً يطفئ عطشه للعدل والكرامة واسترداد الحقوق.

تعالت في الآونة الأخيرة أصوات تيار من داخل معسكر الشرعية وخارجه تنادي بالاصطفاف مبدأً للتخلص من الطاغية وأعوانه؛ وتتهم الداعمين لشرعية الرئيس محمد مرسي بالجنون لاعتقادهم في عودته واصفة إياهم بالدراويش والمناكيد؛ وترى أن سبيل الخروج الوحيد من الأزمة هو الاندماج تحت راية يناير، رافضة التخوين عموما بل إن منهم من وسع إطار دائرة الاصطفاف لتشمل من أيدوا نظام مبارك أيضا.

أوافق هذا التيار في أن المنقلبين على نظام شرعي لن يخاطروا بحيواتهم فيتركوا أي بصيص ضوء لخروج من قد يلف حول أعناقهم حبال المشانق، أي إن عودة الرئيس مرسي في -الأحوال الطبيعية - أمر مستبعد تماما، ولا يظن أهل الاصطفاف أن أهل الشرعية بغافلين عن ذلك؛ فهؤلاء المناكيد الرافضين للعودة للمربع صفر؛ لم يجدوا من الآخر حرصا على اصطفاف، هم يعلمون أن ما يطلبه منهم هو أن يشبكوا أصابعهم ليعتلي أكتافهم ويصل إلى الحكم..


هؤلاء الدراويش ينادون بعودة مرسي كشعار يبقي جذوة الثورة مشتعلة، ويبقي ماجرى وكان قيد التذكر، ويؤكد على حقوق ضائعة وأرواح مزهقة وبلاد مسلوب إرادتها، وينفي عن مصر عار ما يجري من تنازلات عن أرض وكنوز وثروات تسلب صباح مساء.

إن الشرعية لم تكن يوما وهما، بل هي الحقيقة الوحيدة في مسرح يعج بأشباح الثورة ومسوخ الانقلاب، وإن السعي لإغراقها لهو جرم عظيم. الشرعية ليست محمد مرسي، وليست الإخوان، إنها الدليل الوحيد على أن ثورة مرت بهذه البلاد أثمرت دستورا وبرلمانا، فلكم يكن مرسي سوى ممثل لمن ثاروا عبر انتخابات ديمقراطية حقيقية؛ وأول درجة في سلم الحرية التي لم يقدر قيمتها من شاركوا في ذبحها. إن نفي الشرعية ببساطة لهو نفي لثورة يناير وإكساب شرعية لسهرة يونيو.

يمني المصطفون الناس بما يشبه يناير، وإن هذا لهو الوهم بعينه. فالاصطفاف وقتها كان مرهونا بألا يحلم الإخوان بالسلطة، وعليه فقد اصطف المعارضون قبل الثورة في حركة كفاية فقط عندما لم يتقدم الإخوان لقيادة الحركة، واصطف الثوار في 2011 عندما قبل الإخوان ألا يرفعوا شعاراتهم وقبلوا أن يصبغ الميدان بصبغة ليبرالية إعلامية جعلت اليسار يظن أن حقوق ملكية الثورة قد آلت إليه؛ ولو أن اصطفافا حقيقيا حدث في الميدان، لما حار الثوار وانقسموا على أنفسهم حين أعلن المجلس العسكري رغبته في الجلوس مع ممثليهم؛ ولما وجد العسكر ألف شق لينسلوا من خلاله فينفثوا السموم في جسد الثورة. لم ينشق صف الثوار بعد موقعة محمد محمود كما يظن الكثيرون، بل حدث الصدع خلال أيام الثورة الأولى.

إن هذا الوهم الكبير الذي صدره الإعلام عن خرافة ألا يكون للثورة رأس، ليستحق جائزة أفضل كذبة في التاريخ. فليس هناك ثورة ليس لها نخبة تسير وفق أهداف موحدة لتحقق فكرا محددا لتيار معين تمثل رأسا لها.

لم يكن الأمر اصطفافا؛ بل كان امتدادا لمساومات قديمة بدأت حين اجتمع اليسار وأعد قائمة مواد ما فوق دستورية فيما عرف بوثيقة السلمى؛ فلم يوافق الإخوان، فعاد ليساوم مرسي ليوقع على وثيقة كاتفاق أثناء الانتخابات الرئاسية ليدعمه فلم يوافق؛ فلم يجد بدا من احتلال ميدان التحرير لمدة عام للضغط عليه؛ إلى أن تأكد أنه لن يستطيع الوصول لبغيته من خلاله؛ وبدلا من أن يرسي قواعده وينشر مبادئه ويكتسح مجلس الشعب الجديد بعدما تم التآمر على حل القديم ويختار رئيسا للوزراء ويسيطر، اختار سكة الندامة وركب للوصول إليها دبابة. وحين طرحته أرضا، عاد يتصنع البراءة جارّا أذيال الخيبة بكبر؛ غاسلا يديه من الدماء، ومصففا الشعر ومهندما ربطة العنق، واستقبله بالورد مصطفون شرعيون يكملون ما بدأه المتعلق بأستار المجلس العسكري من مساومات، ليطلبوا من أهل المقتول بأيديهم أن يدفنوه ولا يطلبوا ثأرا، ويكرروا مطالب اليسار الأولى، متمسحين بآلام المعذبين، ودموع الثكالى، واهمين جموع الشرعية أن لا ثورة دون التنازل لإرضاء من لو كان يقرأ التاريخ لعلم أن ركونه للعسكر لن يفضي إلا إلى بركة دماء؛ ولا أظنه لم يكن يعلم.

يطلب المصطفون أن يعود الجميع لمربع يناير، والمقصد أن يعود الشعب عن خياراته؛ أي أن نعيد اللعبة من البداية فقد تعوض النخبة اليسارية خسارتها هذه المرة وتحقق ما أرادته يوما ولم تفلح في الوصول إليه.

لست ضد الاصطفاف؛ ولكن حين يكون اصطفافا حقيقيا، يقف فيه الجميع على قدم المساواة، تطهر فيه الجروح لتلتئم. أدعمه حين تطالب جميع الأطراف بالاعتراف والاعتذار، حين تقدم كل الأطراف تنازلات ذات قيمة؛ حينما ينزل صاحب "الكاجوال" ليرى ماذا فعل بصاحب الجلباب.

أعرف أن الأمر لا بد أن ينتهي على طاولة مفاوضات؛ يتحلق حولها القاتل والمقتول والمغرر به والخائن المقنع وكثير من المنافقين الذين تكسو وجوههم مساحيق تجميل لا تخفي أرواحا دميمة؛ ولكني أرفض إقامة احتفال ترفع فيه نُخب شاركت في قتل يناير نَخب التمثيل بجثتها.
7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر