لا تستغربوا... نحن نعيش في العراق!

لا تستغربوا... نحن نعيش في العراق!

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
هنالك خيطٌ رفيع بين اليد واللسان، فحين تُبعث اليد بمسك عنق أحدهم ينعتق اللسان من إنسانية صاحبه وتخرج الكوارث بلا حساب، وتمضي الجرائم بلا عقاب ولا محاسبة، بل تتهافت نحو مرتكبيها الضحايا، وتنتظر السكاكين فيما تبتهج الخطيئة لترقص بلا خجل.

البلد يعيشُ في مرضٍ سريريّ ونعش حجريّ، وأسفي على غابةٍ تنمو وتعلو فيها أشجارُ الأسى.. ثِمارها مُرة وحنظلها عتيدٌ صارم، ويقبع في صدري حزنٌ مثقلٌ بالغياب، نئِمٌ مثل. كائنٍ بوذي، يتكور من التعبد، فما أكثر الطحالب، وما أقل الماء، وما أشد الخراب أمام قلة الود والحنين.

ليست حالة سوداوية ولا تشاؤما أو فلسفة وخطابا تنظيريا، فهي حقيقة بلدٍ لا يزال يذرف أبناؤه الدماء بدل الدموع، بعيداً عن رحلة السندباد وألف ليلة وليلة، أو رحلة ساندياغو في رواية الخيميائي باولو كويلو، أبداً أبداً.

كل ما في الأمر لفتت انتباهي لوحة مرورية على جانب الطريق مكتوبٌ عليها (عزيزي السائق.. انتبه أمامك حفريات)، بينما كنت سالكاً طريق ديالى- كركوك متجهاً إلى أربيل في يوم الأربعاء 8 أغسطس/آب 2014، إلا أن هذه اللوحة لم تغير شيئا ربما منذ سنوات على وضعها، لأن الحوادث المرورية كانت مرعبة وأرقام الضحايا مخيفة آنذاك!


في ذلك المساء ومع وصولي إلى مركز التدقيق الأمني لمحافظة أربيل، بحدود الساعة الثامنة والنصف تقريباً، وبعد ذلك الطريق الشاق، امتنعت القوة الأمنية من إدخالي إلى مركز المدينة، لأن الوضع الأمني كان متدهورا للغاية، بسبب هجوم شنه عناصر تنظيم "داعش" على منطقة مخمور التابعة لمحافظة نينوى والمحاذية لأربيل عاصمة إقليم كوردستان العراق، كانت طوابير المسافرين حينها تنتظر التصريح الأمني والموافقة بالدخول، وبعد ثلاث ساعات سُمح بالدخول بعد التفتيش المكثف والدقيق وتمكنت من دخول المدينة.

طوال فترة الانتظار لم تغب عني صورة اللوحة المرورية التي كانت على جانب الطريق، لأنها كانت تذكرني بصورة أخرى وبنفس العبارة عندما كنت في السابعة من عمري، والتي وضعت في الشارع العام الرئيسي المقابل "لمعمل الزجاج" الشركة الوطنية العامة لصناعة الزجاج والسيراميك، حينها كانت هنالك حملة لتعبيد ورصف شوارع المنطقة من قبل مديرية البلدية، كنت أتذكر كيف كانت الآليات تعمل الليل مع النهار وجميع العاملين والكوادر المشرفة تعمل بحيوية ونشاط.

كانَ كل ذلك فترة الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً على العراق، نعم، كانَ حصاراً شمل كل شيء، لا مواد مستوردة للبلد، ولا مواد تُصدر منه، وعلى الرغم من ذلك أنجزت جميع المهام في إصلاح الحفريات وتعبيد الشوارع التي كانت ضمن مرتسم البلدية في وقتٍ قياسي!

نعم، كانت في فترة الحصار والجميع كانَ يعاني من انعدام الأدوية وقلة الغذاء، ما دعا المختصين إلى إيجاد حلول مناسبة، فأقدمت على تفعيل وتشجيع القطاع الزراعي المحلي، وإعادة تأهيل المصانع وتشجيع الصناعة المحلية بكل أشكالها، ما شكل اكتفاء ذاتياً للمنتجات نوعاً ما، كنت أتذكر كأنها الآن حملات حصاد محاصيل القمح والشعير والسمسم وجني التمور من بساتين الجزيرة، نعم أتذكرها كأنها الآن، كنا صغارا نذهب مع الأهل والأعمام لجني وحصاد المحاصيل التي كانت تشتريها الدولة تشجيعاً للزراعة من جهة وسد النقص الحاصل في السوق من المواد الغذائية، لا زلت أتذكر المشاكسات التي كنت أقوم بها برفقة أقراني عند كل حدث.

نعم، أتذكر كم كانت تلك الأيام جميلة لعفويتها وحنين الناس فيها، لا أحد يَكِن للآخر الحقد ولا الضغينة، عند المقارنة للوضع والأحداث نجد أنفسنا نتخلف كثيراً مع عن ماضينا، لا تقدم ولا تطور ولا حرية ولا ديمقراطية ولا أي شيء أبداً.. فمع كل تقدم يشهده العالم نحن نتأخر كثيراً، نعود إلى الوراء مع كل إنجاز علمي يحدث لدى باقي البلدان، القريبة منها والبعيدة.

في بلدٍ كانت نسبة الأمية والبطالة فيه 0%، نجد أنفسنا في بلدٍ هو الأول عالمياً في الفساد، جواز سفره متدن قياساً بباقي البلدان، التجارة فيه منعدمة باستثناء النفط الذي يعتمد اقتصاده عليه كلياً، آآه.

إن المشكلات كثيرة، فلو تجاوزناها جميعها وتوقفنا عند المشاكل الاجتماعية فقط، نجد أن مجتمعا عشائريا مترابطا ومتماسكا بات الآن رهينة الأحزاب والمليشيات ومافيات الخطف والقتل والسرقات المدعومة من أحزاب السلطة الحاكمة، كل شيء تفكك وتهدم، بلدٌ عاصمته كانت قبلة العلم والعلماء، بناها قادة الأمة وعظماء نشأتها وتوسعها وتطورها، الآن مستباحة كلياً من قبل مليشيات وعصابات القتل والإجرام والاغتصاب والمتاجرة بالبشر، بغداد الآن وبحسب تقارير دولية لا تصلح للعيش نتيجة السياسة المزدوجة المعتمدة على حماية العصابات وتسلطها.

أخذنا الحديث بعيداً رغم أني بحثت جاهداً عن جانبٍ يشع بالنور ويبعث الأمل والتفاؤل إلا أني لم أجد سوى أبتسامة طفلٍ يحاكي واقعهُ بالصبر، وتجعدات بملامحِ شيخِ طاعنٍ بالسن يقول "أيا ليتَ الشباب يعودُ يوما"، وأمٌ تبحث في زوايا أركان المدينة عن أملٍ مفقود. لا تستغربوا فنحن نعيش في العراق، بلد العجائب والمعجزات.

نحن في بلد تشجع فيه مؤسساته التعليمية على ترك الدراسة والتوجه إلى مواكب العزاء والتفرغ للطم، رغم أننا بحاجة إلى كل ثانية يمكن أن نعمل بها ونطور من خلالها إمكانية شبابنا وتقدمهم نحو الأمام، لا أن نرجع بهم ونؤخرهم 1400 سنة محملين أفكارهم بالحقد والانتقام.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، أغنى بلدان العالم ويفترش طلاب مدارسه الأرض في صفوف متهالكة.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، وزير الخارجية العراقي لا يعرف شيئًا عن تاريخ بلاده وينهي دور الخلافة العباسية في بلاده.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، أم تعرض ابنتها للبيع لإعالة أسرتها وسط تسلط المليشيات والعجز الحكومي عن توفير أبسط مقومات العيش الكريم.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، يُحال شاب "أخرس" إلى القضاء بتهمة نشر صور التظاهرات، بينما الفاسدون واللصوص ينعمون بالأمان.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، الحكومة عاجزة عن توفير أسرّة للمرضى وتجعلهم يستلقون على الأرض.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، مسؤولٌ في الدولة يوجه كتاب شكر وتقدير لنفسه!

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، تعجز فيه الحكومة عن حصر السلاح بيد الدولة وتوفير الأمن للشعب.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، الشعب يطالب بحقوقه من أمن وخدمات والحكومة تجيبه بالدبابات.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، مواطن يراجع دائرة الأحوال الشخصية ليرى نفسه متوفّى منذ سنوات.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، مراجعون يتسلقون جدران الدوائر الحكومية لتسيير معاملاتهم.

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، فيه الحكم بالإعدام لخليفةٍ أموي توفي قبل 1275 عامًا!

لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، الفقير يجلس تحت شعارات "صوت الفقراء" التي أطلقها المرشحون للانتخابات، بينما الفقراء ينصتون لكذبهم منذ سنوات.

نعم، لا تستغربوا، نحن نعيش في العراق، غابة أصبحت، يأكل القوي فيها الضعيف، وينهش لحم أخيه من يختلف معه، إنها الفوضى التي جاءت بها ديمقراطية أميركا وإسلام المعممين الجدد المملوءة كروشهم وعقولهم بالحقد والانتقام.

وعبارة (أخي السائق انتبه أمامك حفريات) تغيرت بمعناها لتكون ضمناً (سأدفعك إلى الحفريات لتهلك وتموت).

فلا تستغربوا.. نحن نعيش في العراق.