"العلوم لا تطعم خبزاً، فلتغن أفضل"

"العلوم لا تطعم خبزاً، فلتغن أفضل"

13 أكتوبر 2018
+ الخط -
أرسل لي صديق سوري رابطاً لبرنامج تلفزيوني، منتشر على وسائل التواصل بين السوريين والعرب، وخصوصاً من يعيشون في المهاجر، يسألني متحدياً عن رأيي.

تظهر فتاة سورية في برنامج "نجوم العلوم" على تلفزيون "العربي".. البرنامج ولا شك هادف ويسعى لاستجماع واحتضان وتشجيع طموحات الشباب العربي لتطويرها.
لكن قولاً واحداً مؤخراً في إحدى الحلقات، لم يبد فقط محبطاً بل مثيراً لغضب القراء، وخصوصاً لتصرف بعض أعضاء لجنة التحكيم على الطريقة العربية التقليدية مع بعض عارضي الأفكار.. الضاربة بعلوم النفس والتربية والاجتماع عرض الحائط.. وهي طريقة أصر التلفزيون "العربي" أن يصنع فرقاً فيها وعنها، في واقع إعلامي عربي موغل في الابتذال. القسوة هنا ليست على فكرة سليمة، بل على متناقضة كارثية بين الهدف والوسيلة. صحيح أن المُحكم ليس هو من يقرر، بل علماء في الكواليس، لكن القضية لدى المتلقي ترتبط بما يتلقاه، وليس بما لا يدركه في كواليس احتضان الفكرة لأصحاب المواهب العلمية.

الحالة النفسية لمراهق/ة أو شاب يعرض فكرته تبقى عالقة في الذهن، كما علقت لدى كثيرين ممن هجروا أوطانهم بحثاً عن أجواء أخرى للتجريب، خطأً وصواباً، دون جعل عالم ذرة عاد لخدمة بلده مجرد "مدرب عسكري"، كما كان يحدث في دولة شعارها "لا حياة في هذا إلا للتقدم والاشتراكية".

وفي الأصل برنامج نجوم العلوم لم يكن سوى لتجسير الهوة بين الطموح والاستحالة في الحالة العربية. فبعد حلقات وحلقات من البرنامج، رغم كل الانتقادات التي وجهت سابقاً للجنة التحكيم، وبقسوة على وسائل التواصل، وخصوصاً في لغة التخاطب وسؤال علاقة محكمين بالعلم، خلص أحد الحكام إلى متناقضة أغرب ما تكون عن مكانة العلم والعلوم.

فماذا يعني أن يسأل محكم تلك الفتاة، مع عرض الفكرة "بتعرفي تغني"؟ ثم بعد استعراض لا علاقة له لا بالفكرة ولا المحتوى، وقد يكون فقط من باب التسلية المتفق عليها، كبهار ترفيهي مفهوم، يقول لها الحكم "كشاف أصوات": "عندك موهبة أنصحك أن تمشي وراءها. وهي الغناء". ردت الفتاة: "لا.. أنا أحب المجالات العلمية".. استخلاص الأستاذ؛ وهنا الكارثة والطامة الكبرى في أمراضنا الاجتماعية، وخصوصاً في الإخلاص للعمل، تصعق، حتى لو كان يقصد مزاحاً أو تهكماً.. أو ما يسمى "ضغطاً".. على حالة تأخر الاهتمام بالعلوم والشباب: "العلم ما بيأكلش عيش"، أي إن العلوم لا تُطعم خبزاً..

لا أدري من أين لصاحب الرأي أن يستنتج جازماً، وأين تحديداً؟.. وأي رسالة وصلت لمن يحملون فكرة تجريب أفكارهم العلمية من الشباب؟
لو حدد حكم حالة وقيمة العلوم، البيئات الطاردة له نقداً، لفُهم على الأقل ذلك الجزء المفقود. وهذا أيضاً عذر غير مقنع، إذ لا داعي الآن للخوض في بديهات أن العلوم هي أساس كل ما وصل إليه الإنسان. فمثل ذلك الرأي يذكرني باستمتاع أحدهم بعلوم الغرب ثم يطلق شتائمه بيقينية تآمر علوم الغرب علينا، ومن ثم على تقنيات ذات الغرب. كمن يرى في الحاسوب وفي الطائرة منجزاً شيطانياً وهو على متنها. انفصام آخر من حالة لا تعيش انسجاماً في السعي نحو عمل وجهد يجسر الفجوة لا يعمقها. ويستسلم للواقع المر.

بكل الأحوال، جاء محكم آخر ليكحلها فعماها "طبقي العلم لمساعدة الفنانين (يعني المطربين)". فأي علم ذلك الذي تطبقه، طالما أن الأستاذ حسمها مع الشابة "العلم ما بيأكلش عيش..".

يطالب الناس على مواقع التواصل أن "يُقدم اعتذاراً لها".. شخصياً أرى أن الاعتذار وحده غير كاف.. فرأفة بالعلوم وهدف البرنامج والمهنية قبل هذا وذاك.. ليس المطلوب أن تكون متجهماً، إذ يمكن للعلم أن يكون مثيراً حتى في تناوله الساخر، كما في برامج تجريبية أخرى حول العالم بابتسامات حتى في فشل التجريب.. لكن ليس إلى حد الابتذال وتكسير نفسي للطامحين.. إذ يكفي جملة "الفكرة يمكن تطويرها" لإنقاذ موقف أن العلم لا يطعم خبزاً.. فارحموا عقول المشاهدين يرحمكم الله.