فقراء مستغلون

فقراء مستغلون

17 يناير 2018
+ الخط -
زقاق طويل من أزقة صنعاء المنسية.. محفوف بالأغصان اليابسة. غالونات ماء، حيطان تالفة، وأبواب كثيرة تخفي كل منها أوجاعاً مختلفة لكنها تجتمع في فقرها وبساطتها.

منزل مرتب بقطع أثاث سيئة من كثرة استخدامها، فالناس لا يهبون أشيائهم إلا وقد انتهى عمرها الافتراضي.. يحاولون ترميم بعضها، ترقيع القطع والعيش بها كغيرهم.. كعادة البُسطاء، يحبون الغرباء كالمقربين منهم تماما.. في حقيقة الأمر ليس هناك ما يخشون منه أو عليه! يقدمون ابتسامة دافئة وسلاما عامرا بالحفاوة كأنني زرتهم سابقاً، وفي واقع الأمر كانت الأولى دائما.

تحتضن الجدة عجزها وشيخوختها وتركن إلى ركن الغرفة، وتقابلها في الركن المقابل ابنتها التي تسبح بعدد خشب السقف وتعيد عدها مخافة أن يطول الوقت بازدياد لفحات البرد ولا تهنأ بدفئها..


نهضت سريعاً لتوقظ ابنتها لترحب بقدومنا.. شابة في مقتبل العمر تلهث هنا وهناك لتجمع قيمة مكان يأويهم.. قتل زوجها الذي كان يعمل سائقا للباص في حادثة من حوادث الحرب الغامضة.. تحكي بأسى: "أشتغل فراشة"، وأنا أردد في أعماقي: أنت أقرب للفراشة.. رأيت غصة المكابرة على الوجع وهي تحدثني وتقبض على طفلتها كأنها الأمان الوحيد..

سألتها: ما اسمك يا صغيرتي؟
أجابتني: أمل

كانت والدتها تحمل شيئا بجوار غصتها.. شيئا من الأمل! تتشبث به رغم صعوبته، رغم وعورته.. لم تتذمر أو تشكو قلة الحيلة.. لكني تساءلت، إذا كان كل ما تجمعه يُدفَع إيجارا فمن أين يأكلون؟

كنت أريد زيارة معلم يسكن في المدرسة لديه مهلة حتى آخر العام ليجد مسكنا ويخرج منها، لكني لم أستطع بعد أن سمعت أنه باع كل شيء.. بلغ به الحرج حد رفض مقابلة الغرباء..

مثل هؤلاء لا تصلهم المساعدات التي تقدمها المنظمات، فالمنظمات تقدم جهودها لتستمر أعمالها ولا نجد لها أثرا ملموسا لأنها لا تلبي احتياج الواقع مقارنة مع الجهود المبذولة، فالمنظمات تبقي عملها في إطار المانح المسيطر على منحته وتتناسى، وبعضها يلتف على سلامة رسالته وأهدافه الإنسانية..

أثبتت المبادرات الشبابية أنها أكثر مرونة في إيجاد المحتاجين المتعسرين وتفنيد احتياجاتهم، فليس لدى الكثيرين منهم الجرأة للتدافع أمام طوابير التوزيع والتسجيل، فمعظمهم كانوا طبقة وسطى سحقتهم الحروب وأجهدهم النزوح ويحتاجون إلى معونات وتقديم خدمات طارئة كالأدوية المزمنة، لكن الفرد منهم ينكفئ وراء جدرانه مفضلا موته عزيزاً في غنى عن السؤال والذل.. وهذا الجهد غير كاف، فالمبادرات تحتاج إلى حاضنة كبرى تنظم عملها ولا تسرق جهودها وتبدد إنتاجيتها لتتوسع الخدمة وتقسم بحسب الاحتياج المجتمعي لا الكم..

نحن بحاجة إلى إعادة ترتيب الخير في قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا حتى نتمكن من توسيع رقعة الضوء، نعين من يحفر في الجدار بالحفر من جهة أخرى ليستحق النور دون الشعور بالمذلة والإهانة..
7B875018-CC3F-46B9-A3DE-684F93E0A72B
صفاء الهبل

روائية وكاتبة يمنية، رئيسة مبادرة (كن إيجابيا) للأعمال الخيرية. صدر لها رواية (قدري فراشة).تعرف عن نفسها: مجرد باحثةٍ عن غيمة لتمرغ فيها مرارة الواقع.مصابة بالمسّ. كلما أمطرت رفعت طرف حرفي ورقصت حتى الإنهاك والتعب.

مدونات أخرى