مجموعة رسائل لا تصلح للنشر (من وإلى سورية)

مجموعة رسائل لا تصلح للنشر (من وإلى سورية)

12 يناير 2018
+ الخط -
أُدركُ اليوم أنني لن أكون هنا لوهلةٍ من الزمن، أنا ساكنة دائمة لهذا المكان. أدركتُ بعد سنينَ طويلة من الاستقرار أنَّ قلق السفر يجب أن يرحل، وأنه بات عليَّ أن أستسلم للذة المكان الذي استقبلني بِبرود، وأن أبدأ الحياة كما هي هنا.

وكنت قد اعتدتُ أن أكون ضِمن عائلة، أو مجموعة أو جالية، في حياة سابقة. لَكنني الآن يجب أن أبدأ من الصفر، حيث لا أعرف أحداً ولا أقترب من الانتماء للمكان خطوةً. فبيني وبينه ثلاثون عاماً من الأُلفة في أماكن أُخرى، وثلاثون عاماً من الثوابت الراسخة، ابتداءً بالديكتاتوريات وانتهاءً بثوابت اجتماعية مُزرية.

أنا المحظوظة المنفية في مدينة نائية، بوثيقة زرقاء تضمن لي حقوقاً واهية، منها أنني إذا متُ ولَم يكُن في حسابي البنكي ما يكفي، فسأُدفَن في مقبرة جماعية مكتظة بأجساد لا تشبهني حتى عندما أصبح جثة خاوية.

مجموعة رسائل

أفتح عينيَّ ذاك الصباح، على صوت نقر خفيف قادم من النافذة. أنظر إلى الزجاج أمامي هناك رسالة، أستقي القوة من فضولي، لأنهض وأقرأ شيئاً، لا أعرف لِمن ومِمَّن. 

ما إن أفتح الرسالة حتى تنطلق منها أغنية. أغلقها وأضحك.

لم يعد أي شيء كما كان من قبل، أصبحَت الرسائل تنهال إلى عالمي من شتى النوافذ، ممتلئة بالأغنيات وبالورود والكلمات.

لم أعُد حزينة، فقد امتلكتُ أملاً، أخذ يتجمع على هيئة رسائل. كان عليَّ أن أرمي الرسائل طابقاً واحداً، ونافذة واحدة. لكنني لم أقُم بذلك أبداً.

رسالة أخيرة

أعرف أننا لم نكُن لِنصل إلى هنا لو أننا تجاوزنا التاريخ الحتمي، وقَفزنا فوق الثورة فلم نَفتح تلك الصفحة أبداً. ولكننا وقعنا في أسرها وغوايتها منذ الصرخة الأولى وقطعنا خيوط جروحنا فسالت بنا وانسابت بدون هوادة وأخذَتنا حيث نريد ولا نريد. ووَصلنا إلى هنا، ورغم أننا خيبنا أملنا وعَدَلنا عن وجهتنا الأولى، فباتَت المهمة أن نَخلِق ما نُريد في مكان لا نُريد، وأن نَبني عالماً هشاً يُعوضُ خسارتنا ويكافئنا بحق المواطنة في منافينا الحديثة، ولكننا نعلم أن ما بدأ يافعاً تحرسه جداتنا وآباؤنا، وأن البلد أمانة في قلوب من بقي فيها، وأن أمي هناك، تحرس جدتي وأبي، وأبي يحرس ذكرياتي عندما كنت طفلة بجديلة، وجدتي تحرس أغنيتي ولغتي وكتاب مدرستي الأول. وأنني لن أعرف أبداً كيف تعيشين اليوم يا أمي في غيابي، فعندما أزورك يبدو لي أن كل شيء بخير في قلبك، وأنك لا تزالين تضحكين عندما أخطو عتبة بابك الأولى، وأنك تستطيعين من هناك أن تمنحيني حضناً دافئاً محملاً برائحة دمشق الملوثة بالضجيج المفزع، وبالشوارع التي يسكنها الجوعى والجرحى والنازحون.

وأنك تحرسين مع من بقي قصصنا القديمة وأرصفة أحلامنا.

رسالة ما بعد الأخيرة

عندما زرتُ دمشق منذ شهرين، اتخذتُ على عاتقي إيصالَ الرسائل العاطفية لِمن بقيَ هناك من أُمهاتِ وآباءِ أصدقائي المُشتتين، غَمَرتني صدور الأمهات الواسعة، ودموع الآباء الذين يَشدون على يدي بِعُنف لأوصل الرسالة الواحدة الخالدة: نحن ما زلنا هنا..

وفي لحظة وداع حاسمة كان والد صديقتي يريد أن يقول شيئاً ولكنه تعثر باختناقاتِ حنجرته، وبعد أن استجمعَ شَتات صوته، همسَ لي بلطف: كيف لك أن تأتي لزيارة دمشق.. بناتي لا يمكنهن ذلك..

أجبته مُتأسفة: أنا لستُ لاجئة.. 

نهاية

لستُ لاجئة، بالصدفة والحظ ورضا أمي، وعطف أبي..

لستُ لاجئة وتُؤلمني حريتي وغيرة الآخرين. عندما يسألونني من أنت؟ أجيب: أنا سوريةٌ، ولكنني لم أرحل مع الجميع، رحلتُ قبلهم كلهم، عندما كانوا جميعاً هناك. ما زالت دمشق مَلجئي وسَندي ومَخبئي عندما أريد أن أختفي، وأن أمارس عادتي السرية، بجمع الرسائل التي لم تكن لي، وإيصالها لمن ليست لهم، وما زلت أسرق الحضن المشتاق من دمشق وأوصله إلى أوروبا، دافئاً قبل أن يبرد.

دلالات

9BAC13F6-67B4-4BA6-A324-1015B2C63936
زينة قنواتي

صحافية سورية مقيمة في براغ، درست الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، والصحافة والإعلام في جامعة براغ. عملت في مجال تأليف قصص الأطفال. وحاصلة على شهادة تدريبية في علاج الصدمة.