صناعة مجتمعات الوشاية... "كلنا أمن"

صناعة مجتمعات الوشاية... "كلنا أمن"

21 سبتمبر 2017
+ الخط -
نشرت "عكاظ" السعودية، الأربعاء 13 سبتمبر/أيلول، نداء أمنيا حرفيا: الأمن العام يهيب بالإبلاغ الفوري عن أي حساب على الشبكات الاجتماعية ينشر أفكارا إرهابية أو متطرفة عبر تطبيق "كلنا أمن".
لاحقا جرى شرح المقصود بـ"الإرهاب"، ليشمل تهما لا تختلف عما اعتاد بعض عرب الشمال في المشرق العربي، وخصوصا في ظل حكم البعثين، السوري والعراقي.
 
تهافت معلقون على "النداء"، وكالعادة، فإن المخالف أو الرافض يجد نفسه متهما، ومن تحت الحزام تخوينا واتهاما بالتطرف يصيب من يسأل سؤالا، ويرد أحدهم ليختزل كل القصة "كل مواطن هو رجل أمن". في حين رأى آخر بأنه يمكن حل المعضلة بـ"أخرجوا الوافدين وابشروا بالأمن"...
 
الأخيرة في ما يبدو "عنصرية حميدة"، في زمن عربي شعبوي آخر، غير ذلك الذي سُوق بـ"شهامته"، و"الناس سواسية كأسنان المشط"، ليكشف عن وجهه بانهيار مساحيق تحجرت.
وبكل الأحوال، ليست قصة انتشار الخطاب العنصري هي التي تثير في قبول الصحف تعليقات بهذا المستوى، فإذا كان "الديوان الملكي" قد قبل أن يعبر عنه مستشار بمستوى من السفالة والشتائم، التي رفضها أبو جهل بحق نساء عربيات، فلك أن تتخيل متصيدي العقول المريضة.
 
الحاكم الخائف، مع تنامي التقنيات الحديثة، لا يذهب نحو إطلاق عقل المواطن المبدع، بقدر تهجيره أو قتله تعذيبا، كملاذ من "تنغيص" الشباب عليه ولو بمبادرة "كنس الحارة"، كغياث مطر السوري. يختار "شراء تقنيات التجسس الإلكتروني" من غرب لا تهمه كثيرا ملفات حقوق الإنسان، كتجار الأسلحة ولوردات الحروب، ومنها شركات دنماركية وبريطانية. كذبة "تحصين المجتمع" واسعة، فالأصل تحصين الحاكم المرعوب من الكلمة بحرب شاملة على حرية التعبير والكلمة.

 وبعيدا عن الخوض في معايير الحريات في ازدواجية الغرب، فـأنت اليوم أمام وسائل تواصل وإعلام لا يحيدان عن مهمة صناعة عقل متلصص، تذكّر بما بناه نظام "الممانعة" في الشام.


ففي سنوات "القائد الخالد" حافظ الأسد، والمورثة حرفيا إلى الابن، وربما الحفيد حافظ لاحقا، كان على السوري أن يقدم للأخ الأكبر تقريرا شاملا بما يجري حوله... على طريقة "الدوغري" (المسلسل الذي نفس فيه دريد لحام عن الاحتقان، كما في مهمة الفن المزمن في خدمة الديكتاتوريات). الوسائل; آلة تسجيل بسيطة، ورقة وقلم لتنميق "التقرير"، بمن نبتت لحيته، ولو كان مقلدا للرفيق جيفارا، ليصير "إخونجيا"، والعم والخال في "حزب العمل الشيوعي"، وربما أنهما لا يفقهان فرقا بين الشيوعية والشيعية.
 
واقع الحال يقول بأن اختراع "تطبيق" لخدمة الإنسان، وتسهيل بعض أموره اليومية، يحيله إعلام الحاكم، وأذرعه الأمنية، إلى تخليق مجتمعات التلصص والوشاية والتجسس وفتح النار على كل من اختار رأيا مخالفا، أو صمت عن مناصرة باطل بيّن.

فما تعلمناه، منذ أن كانت التقارير الأمنية تصاغ ببدائية، أن التقنيات لم تُستثمر يوما لتحصين المجتمعات والأوطان بوجه المحتل، المتحول بسلاسة إلى "حبيب" يستحق التحالف والتطبيع، بنكاية وبصبيانية ضد عرب آخرين. وليس الحاكم، المرعوب من الكلمة، والصورة والرسم، خائف من أن يقول المواطن رأيه فيه. بل حر في رفعه إلى مستوى الأنبياء، وفتح الصفحات لتمجد عطاءات ومنح جيبه وخزائن عائلته، وأمواله وتركاته فوق وتحت الأرض. وهو لا يخاف التملق إجماعا على "حكمته وقوته وتحديه لأكبر وأعظم الدول".
 
الحاكم  الباحث عن بوصلة الغرب لشرعنته، يبيع عنترياته على البسطاء، فتجده متنمرا، تُخترع له بطولات ومعارك وهمية تتدلى لها نياشين تثقل الظهور. لا تبحث بعيدا، فقصة "وقوع أحدث باخرة ناتو ألمانية في حضن شبابنا في الساحل السوري"، ألقيت على مسامع طلبة جامعيين مقهقهين... ومثلها قصة "قائد الأسطول السادس الأميركي" على قنوات نظام السيسي. الغريب ليس أن تسوق بطولات وهمية، بل أن تجد "الغرب" نفسه ينقلب ضاحكا، تاركا البسطاء يصدقون حقا أن "زعيمنا المفدى" هو الأقوى، والمتحدي الأعظم... وليس بغريب حينها أن تقول وزيرة إسرائيلية كل القصة: بشار إن أردت أن نبقيك حاكما لسورية... أخرج إيران وحزب الله.. ولا إنْ تمخضت غدا دبلوماسية "بتشوف" عن تفرد الصحف ووسائل التواصل إلى اعتبار بشار الأسد "القائد الضرورة للأمة العربية". ففي زمن عربي كهذا كل شيء مباح لضمان ألا يسمع الحاكم سوى صوت مجتمعات التلصص تهتف "كلنا أمن وجواسيس... على بعضنا". 

دلالات