ما بين الجامعة وضابط الشاباك

ما بين الجامعة وضابط الشاباك

02 اغسطس 2017
+ الخط -
موظف ختم الجوازات: أهلاً.

أهلاً وسهلاً، ومن ثم أعطيته أوراقي الثبوتية.

بعد خمس دقائق، الموظف في نظرة ماكرة: رجاءً، انتظر بضع دقائق على ذلك الكرسي.

أقول له من زاوية تجاربي السابقة: بضع دقائق أم بضع ساعات؟!

الموظف في ضحكة خجولة: انتظر هنالك وهم سيأتون إليك في الحال.

من الذي سيأتي؟ ولماذا؟ أنا لم أفعل شيئاً منافياً لقانونهم حتى.

كنت محقاً في أن الأمر سيتجاوز بضع دقائق إلى بضع ساعات، ضاقت بي ساعات الانتظار ولم أعد أحتمل ذلك، انقضت الساعة الأولى والغضب يمتلئ في وجهي لكن تعابيري أمامهم تمثلت بابتسامة عدم الاكتراث لما يقومون به، خاصة أنني لم أكن الوحيد في ذلك، فالتقيت مع ما لا يقل عن ثلاثة شبان تم وضعهم إلى جانبي. وللحقيقة فإن الشعور بذلك كان مريحا جدا، ليس حباً في توقيفهم، إنما حباً في مرافقة بعضنا البعض في محنة نحن لسنا مسؤولين عنها.

ينادون على اسمي، نعم إنه اسمي، بعد انقضاء ساعة ونصف حلقت في السماء فرحاً لسماع اسمي.

ضابط الشاباك بلهجة عربية فلسطينية ساخرة: وينك عم بنادي عليك وما بترد!

تنادون على اسمي ولا أستجيب! تذكرت طلب صديقتي بأن أكون هادئاً ولا أقوم بتوسعة حلقة الكلام معهم، فقلت له: تفضل ماذا تريدون مني؟

الضابط: لا شيء، بعض المعلومات فقط.

قلت له: تفضل، ماذا تريد أن تسألني عن نفسي؟

الضابط (ومعه مرافق "مخيف"): إلى أين أنت ذاهب؟

أجبته: أنا ذاهب لقضاء عطلتي، وهنا سخرت منه بقولي: ألا تذهب أنت إلى عطلة مع صديقتك لو كان لديك الفرصة في ذلك؟

تهرب من الإجابة: لماذا أنت ذاهب إلى ذلك البلد بالتحديد؟

إجابتي كانت مباشرة في عينيه: "باقي عليكم تحددوا إلنا وين نروح ومع مين نروح!".

الضابط: قصدت، هل تريد أن تذهب فقط للاستجمام أم لشيء آخر؟

قلت له: اسمع، لدي العديد من الأمور التي أريد أن أفعلها، لكن جميعها أمور ليست ضمن دائرة اهتمامكم، فقاطعني بقوله: نحن من نحدد ما هو مهم لنا أم لا، فأجبته: أنتم لا تريدون من هكذا أسئلة إلا إيهامنا بأنكم تعرفون كل شيء، بينما أنتم في الحقيقة تأخذون المعلومات منا ومن ثم تقولون لنا إنكم تعرفون كل شيء.

انقطع الحديث بسؤال آخر من الضابط: ماذا تفعل، هل تدرس أم شيء آخر؟

قلت له: نعم، أدرس في مرحلة اللقب الثاني.

الضابط: أين تدرس؟

أجبته: في جامعة بيرزيت.

قال لي: عن ماذا تتمحور دراستك؟ فأجبته ساخراً: حولكم أنتم.

قال لي: أنت تمزح، قلت له: هل تراني شخص أمزح معكم أنتم تحديداً، أنا أقوم بعمل الدراسات حولكم من ناحية بنية الدولة والمجتمع.

قال لي: ولماذا يبدو الاهتمام في دراستك حولنا؟

قلت له: كما تقومون أنتم بدراستنا، نحن أيضا نقوم بدراستكم.

الضباط وفي سؤاله الأخير: تمام، أعطني رقم هاتفك، هاتف البيت، بريدك الإلكتروني والفيسبوك.

 قلت له: بما أنها جميعها عندكم لا ضير من إعطائها لكم مرة أخرى، لكن حول الفيسبوك هذا أمر لا أستطيع إعطائه لكم بما أنه ليس لدي واحد.

حتى ذلك الحد من الأسئلة انتهت المقابلة بيني وبين ضابط الشاباك، اليهودي المتكلم للهجة العربية الفلسطينية (يحاول أن يقلدها لكن بصعوبة).

إن ممارسات جهاز الشاباك تجاه الفلسطينيين (أينما كانوا سواء من فلسطينيي الداخل، القدس، الضفة الغربية، غزة) هي ممارسات مشبعة بإيديولوجية أن الفلسطيني هو دائما مشتبه فيه وأنه تهديد أمني موجود في داخل حدود سيطرة إسرائيل، وليس من الضرورة أن يكون ذلك الفرد الفلسطيني قد تم اعتقاله، محاكمته، أو سجنه سابقاً، فالحالات التي تتم معاينتها من قبلهم هي حالات في أغلبها متعلمة تعليما عاليا لا ترتبط بأية تنظيمات سياسية أو تنظيمات مسلحة ضد إسرائيل. وهذه الفئة التي يقوم جهاز المخابرات الإسرائيلي باستهدافها يعرفها جيداً وهو يستهدفها بشكل متعمد وليس بشكل عشوائي. وهذا يطرح تساؤلات على غرار ما الهدف وما الجدوى من استهداف جهاز المخابرات الإسرائيلي لتلك الفئة المجتمعية، التي هي بالمصطلح الإسرائيلي فئة "نظيفة"، كما لماذا يتم التركيز في تلك الفئة على الأشخاص المتعلمين تعليما عاليا بحيث يشكلون خصوصية واهتماما لهذا الجهاز؟

لا يمكن الإجابة عن تلك الأسئلة دون محاولة التوسع قليلاً في الصورة والمشهد الذي تعيشه إسرائيل، خاصة منذ عام 2015، منذ ذلك العام وجهاز الشاباك يفشل في منع "العمليات الفردية" التي يقوم فيها شبان وشابات فلسطينيون (على اختلاف أساليب تلك المحاولات تبعاً لظرف كل حالة)، بالتحدي لمؤسسة المخابرات، ليس في أثر تلك العمليات من ناحية الخسائر البشرية أو المادية فقط، بل التحدي الأكبر في أن تلك المحاولات (التي في أغلبها تتم تصفية الفلسطيني حتى لو لم يشكل خطراً حقيقياً) مختلفة عن الحالات التقليدية (والتي استطاع جهاز المخابرات اختراقها بشكل كبير)، فالشابة أو الشاب الفلسطيني غير معروفين بسلوكهم المعادي لإسرائيل ولم يشتركوا (في أغلبهم) بالمظاهرات أو حتى بأي عمل يتم احتسابه كعمل عدائي لإسرائيل. لكن كيف على جهاز الشاباك محاولة اكتشاف شيء هو غير موجود من الأصل بالنسبة إليهم ومع ذلك يشكل خطراً مبدئياً عليهم من الناحية النظرية؟ وتهديداً يمكن أن يتطور إلى تهديد حقيقي.

تعتمد الاستراتيجية التي يستخدمها جهاز الشاباك على محاولة فهم العقلية "النظيفة" أو إذا صح التعبير التي كانت" نظيفة"، والتي كانت أغلب العمليات "الفردية" في جزء كبير منها، والتحول في هذه السياسية يفرض عليهم (المخابرات) محاولة تفكيك تلك العقلية التي لا يعرفون عنها الكثير، فهي إما أن تكون ممثلة بالأشخاص الذين في مستوى المدرسة (أقل من 18 عاما) أو في مستوى الجامعة، وهذه هي التي يتم استهدافها بالتحقيقات والأسئلة أكثر من غيرها. فالحالات الثلاث التي كانت أمامي (وأنا من ضمنها) كانت ثلاث حالات متعلمة أو تتعلم بالجامعات الفلسطينية، وفي تخصصات مختلفة (أغلبها ليس لها صلة بأية مواضيع أكاديمية)، الحالة الوحيدة التي كانت مرتبطة بعمل ودراسة أكاديمية كانت حالتي أنا، أما الحالات الأخرى فواحدة يدرس فيها الشخص تخصص الطب في الجامعة الأميركية بجنين، والثاني يدرس علوما مصرفية. الشيء المشترك بين الحالات الثلاث عدا عن كونها متعلمة، كانت أنها قد تسلمت أوراق استدعاء باسم الشرطة قبل فترة زمنية (يتم تسليم الورقة من قبل الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية ومن قبل الشرطة الإسرائيلية في القدس، الجولان والداخل الفلسطيني).

كل شيء يبدأ مع ورقة الاستدعاء والتي هي فاتحة الأسئلة والمقابلة الأولى مع جهاز المخابرات (على عكس ما هو مكتوب فيها أنها ورقة استدعاء للشرطة الإسرائيلية)، وبحسب الوضع "القانوني" لكل فلسطيني ومكان سكناه، تتم عملية المقابلة، فعلى سبيل المثال في القدس هنالك عدة نقاط دائمة يقوم فيها ضباط المخابرات بإجراء تلك التحقيقات مع الأشخاص الذين هم فعلياً لم يتجاوزوا أي قانون مثل مركز شرطة المسكوبية، مركز شرطة موريا، مركز الشرطة في شارع صلاح الدين، محطة شرطة النبي يعقوب.

أما الفلسطينيون الذين هم واقعون تحت الحكم "العسكري" الإسرائيلي، مثل منطقة رام الله أو بيت لحم، فيتم التحقيق معهم في عدة أماكن ونقاط عسكرية بالقرب منهم، مثل مركز قيادة الجيش "الإسرائيلي في الضفة الغربية ـ بيت إيل" بالقرب من رام الله، سجن عوفر، الحواجز العسكرية الفاصلة، مثل حاجز 300 بين مدينة بيت جالا ومدينة القدس، حاجز قلنديا بين القدس ورام الله.

 الشاب مخاطبا شرطي الاستقبال: مرحبا، لدي مقابلة مع الكابتن أيمن (اسم مستعار).

شرطي الاستقبال: المعذرة، لا يوجد لدينا شخص بهذا الاسم.

الشاب: كيف ذلك واسمه مكتوب على الورقة الموسومة بشعار الشرطة؟!

شرطي الاستقبال مخاطباً الشاب الفلسطيني: انتظر قليلاً، دعني أفحص الأمر. تمر خمس دقائق حتى يأتي شاب روسي صغير بالسن (في أغلب الحالات هم عناصر متدربة من أجل أن يصبحوا ضباطا في المستقبل) بلغة عربية ركيكة جداً: أنت فلان؟

الشاب: نعم أنا، ماذا تريدون مني؟

الشاب الروسي الصغير: أنا لا أعرف شيئاً، الكابتن أيمن هو الذي يعرف، أنا فقط واجبي أن أقوم بتفتيشك.

تبدأ عملية التدقيق والتفتيش والتي تستغرق ما بين 10 -15 دقيقة من أجل البحث عن أجهزة تنصت أو شيء آخر لا يجب أن يكون في داخل المقابلة.

بعد انتهاء عملية التفتيش يصبح الهدف (الشاب) جاهزاً للمقابلة، ويتم إدخاله إلى غرفة المقابلة.

"السلام عليكم"، الكابتن أيمن مخاطبا الشاب الفلسطيني.

الشاب: مرحبا.

الكابتن أيمن بلهجة فلسطينية قريبة من الإتقان: ليش ما بترد على تحية الإسلام! انت مش مسلم؟

الشاب: وما الضير من استخدام كلمة مرحبا، أصبحتم أنتم الآن مسلمين!

الكابتن أيمن: يبدو أنك من الشخصيات التي تحب المزاح، شكلك شخص لطيف. أشرح لي عن حياتك.

الشاب: عن ماذا تريدني أن أتكلم؟

الكابتن أيمن: عن الجامعة، ماذا يحصل في أروقتها من ناحية تصرفات الطلبة، سلكوهم حول إسرائيل، آراؤهم.

الشاب: اسمع حضرة الضابط، أنا لا أتكلم حول أية مواضيع كهذه مع الطلاب، لذلك لا أستطيع مساعدتك في ذلك، أنا أذهب لأتعلم فقط.

الكابتن في نبرة حادة: أنت تكذب، نحن نعرف أنك تخفي شيئاً عنا، لكن نريدك أنت أن تقوله.

الشاب: ما دام تعرفون كل ذلك، لماذا تسألوني إذا؟

هذا مقطع مجتزأ من مقابلة حقيقية ما بين ضباط المخابرات الإسرائيلية مع الشباب الفلسطيني في القدس (بشكل عام)، من خلال ذلك يحاول الضباط أن يقوموا بترويع الشباب الفلسطيني، خاصة الطلاب منهم، من أجل الحصول على أكبر قدر من البيانات عن الطلاب الآخرين أو حتى عن أنفسهم، وذلك من أجل كيفية التصرف مع كل حالة على حدة، فكل شخص يقوم بزيارتهم يقومون بعمل ملف كامل حوله يتضمن كافة البيانات عنه وعن أصدقائه، ومن ثم في نهاية الأمر يطلبون تعيين مكان منزله من خلال الحاسوب.

إن الفئة العمرية المستهدفة في هذا النوع من المقابلات هي ما بين 18 – 26 سنة، والتي لا يكون الشباب فيها قد دخلوا السجن أو تم التحقيق معهم قبل ذلك، وهذه الأمور ليست ضمن أي مظلة قانونية واضحة تجيز استخدام تلك الأساليب، بل هي ممارسات لبست ثوب الاعتيادية والتكرار، خاصة مع الشباب الفلسطيني الذي يتنقل ما بين المناطقة "المدنية" الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية وما بين المناطق التي يتم اعتبارها واقعة تحت الحكم "العسكري"، وأغلب المتنقلين هم طلاب الجامعات، لذلك يجب عليهم أن يدرسوا تلك الفئة التي لطالما اعتبروها "خاملة" أو غير عنيفة.

70554920-77D0-423F-9FEE-30E1B73BE992
علاء عبد الكريم

كاتب من فلسطين. طالب دراسات عليا في برنامج الدراسات الاسرائيلة- جامعة بيرزيت.