دفاعاً عن التدوين

دفاعاً عن التدوين

26 يونيو 2017
+ الخط -

طالعتني إشعارات عديدة على صفحتي الفيسبوكية منذ فترة، تعلمني أن عديد الأصدقاء قاموا بمشاركة نفس الرابط، المعنوَن دوّن مع "العربي الجديد"، فاذا به نداء ودعوة للراغبين بكتابة حرّة على مساحة يتيحها الموقع للمدونين.

لاقى الخبر وقعاً طيباً لديّ، فقلتُ لنفسي ولِمْ لا؟ ومالو! لأجرّب التدوين!

في الحقيقة ليس من موضوعٍ بلا أشواك، وهذا موضوعٌ يمتلك عدة وجوهٍ يلاقي الكثير من الأصحاب حرجاً في التصريح به. أمّا وأنّ كاتبَ هذي السطور يجد مشقّةً في الانضباط تحت الموانع وما يجوز ولا يجوز قوله، فقد وجدَ أن لا بأسَ في التصريح العلني عن بعضها: 

سأدوّن لأنني ألمس تحوّلاً لا أحبه في مزاج الكتابة لديّ إلى نمطٍ سريع ونص حرٍّ، يستجرني إليه مزاجي في الفسبكة وضغوط حياتي الجديدة. لكأنّها الكتابة غير المقيّدة هي الآن ما يمكنها أن تمتص توتر اللحظة وغياب الاستقرار الشخصي والوطني، وحتى العالمي.

أدوّن لأنه إن كان عدد السوريين 22 مليوناً، يخيّل إليّ أن 20 مليوناً منهم أصبحوا كتّاباً وبحّاثة ومحللي سياسة وخبراء استراتيجيا على جانبي الصراع.. مسؤولي إغاثة وقادة مجتمع مدنيّ ومدربي تنميةٍ بشرية.. مشتغلينَ في مراكز دراسات، رؤساء تحرير وأعضاء غرف تحرير ومراسلي راديو وتلفزيون ومصورين، ناشطي فيسبوك ومديرين تنفيذيين لمنصات قانونية وحقوقية، وخبراء حشدٍ ومناصرة، ولعمري فالأخيرة هي أعجب من كل ما سبق. ومن كان لا هذي ولا تلك فلا حزنَ عليه، إذ لن يعدمَ الوسيلة لامتلاك سلاح مهم، وهو أن تكون صديقاً افتراضياً لأولئك المشاهير ومتواجد مجتهد على فيسبوكهم، هذا سيتكفل بدخولك نادي النخبة الافتراضي الطارئ. ولأني لا أستلطف الازدحام وخبراء العلاقات العامة وسباقات القنص، أعتقد أن المدونات أكثر تلك المساحات هدوءاً وأقلها تدافعاً. هنا أنا مسترخٍ. أحدٌ لن يزاحمني.

أدوّن لأني سمعت بعض الآراء تقول إنه ليس من اللائق أن تنشر في الصحافة العربية ثم تنتقل إلى النشر في مواقع الصحافة السورية الثورية الفقيرة، فما بالك التدوين! وحيث إن كاتب هذي السطور، المفتقد دوماً للمثابرة والاجتهاد، كانت له بضع تجارب كتابة سياسية باسم مستعار قبل خروجه من بلده وباسمه الصريح بعد خروجه، نشر معظمها كمقالات رأي في صحيفة "الحياة"، فإنه لا يجد هكذا رأي محقاً تماماً، خصوصاً عندما يصدر عن أفراد عملوا سابقاً في ميادين النشاط الثوري والثقافي، فضلاً عن أن التدوين نفسه صار مؤخراً يستقطب أقلاماً مكرّسة ومشرّشة في الصحافة منذ عقود.

أدوّن لأن "هنا" يحررك من سلطة الجمهور على الفيسبوك. هنا أنتَ تدوّن في العتمة، خلف جدار من الحماية، ومن يقرأك لا يترك وراءه أثراً. هذا جميل وممتع اختباره، رغم أن انعدام اللايكات على منشوراتي لم يشكل يوماً رادعاً لي عن نشرها. وبالمناسبة فقد احتفلت منذ فترة بوصول المعجبين على أحد منشوراتي إلى عتبة الأربعين مليّكاً، ذلك اعتبرته وقعنةً معاصرة وملموسة لمبدأ التراكم المادي الديالكتيكي الشهير، باعتبار المنشور ذاته أعدت إحياءه ثلاث مرات في ثلاث سنوات متواصلة، فكان الحصاد المثلّث أربعين معجباً، ذلك أشعرني بالغبطة، فقلت في سرّي أربعين أجمل من ولا شيء، يا شب. خصوصاً أن جلّهم من النساء الافتراضيات.

سأدوّن لأنه حلّ مقبولٌ، يمكن اعتباره مرحلة انتقالية ريثما تتيسر العودة لنمط كتابة سابق. تمرينٌ هادئ للقلم ليعود له انسيابه، ترييضٌ لحلحلة تكلّس متكدّس في مفاصل الرغبة والدافع الشخصي للكتابة في ظروف تذهب إلى تجريد كل خاص وعام من معناه واستحقاقه للجهد. تدوينٌ في عالم يتكسّر فيه المعنى نفسه كما تتكسر الحدود والدول وحيوات الأفراد وسردياتهم القديمة الراسخة.

سأدوّن لأني لا أنتمي إلى عالم الكتّاب، ولست محترف كتابة. ولن تتعجّب حين تراني أبذل جهداً في كل مرة يُفتح فيها الموضوع للدفاع عن رأيي أن كتابات متفرقة ومتباعدة لا تمنحك حق لقب تعريف نفسك كاتباً. ومعارفي ممن يصنفون أنفسهم كتاباً وشخصيات عامة لا يتجاوز عددهم شخصين أو ثلاثة. هذا الحال ربما يكون طبيعياً لشخص قادم من عالم الصناعة، وأي صناعة! ليست البراقة ولا المكاتب الفاخرة لمدراء المشاريع، بل أكثرها اسوداداً وتشحيماً. فماذا يمكن لي كمهندس نفط سابق، ترك المهنة بعد أن مارسها ولم يشعر بالانتماء لها بما يكفي رغم مغرياتها ليهدر باقي عمره فيها، أن يفقه في عوالم الكتّاب وتكتيكاتهم ومجاملاتهم؟ لا شيء طبعاً. يخيّل لي أحياناً أن أوساط الكتّاب يجب أن تشبه أوساطنا العمالية في نظام الورديات الليلية حين كنا ننام خلسةً على الدكة الخشبية القاسية في غرفة التحكم بالعنفات التوربينية، فالنوم ممنوع طيلة المناوبة. أتخيل أنهم ربما يشبهوننا حين كنا نلتمّ، شوفيرية وفنيين ومهندسين وعمال عضليين، على نفس سفرة الطعام في موقع العمل ونتقاسم الدور بين من يجب أن يسرع بالطعام ومن يجب أن يبقى مراقباً للشاشات ريثما ينتهي زملاؤه ليأتي دوره.

أدوّن لأني أريد لكل شخصٍ أن يقول. لأنني أؤمن بديمقراطية القول والكتابة وضرورة إتاحتها لعموم المهمشين والقادمين خصوصاً من خارج بيئتها الحيوية، ذلك هو بالفعل ما يمكن أن يكون حقيقةً الدمَ الجديد والروح الجديدة للكتابة بنسختها الجماهيرية هذه. طالما نحن أبناء وسائط الإعلام الجماهيرية الآن. أناسٌ لم يتشربوا أجواء الكتّاب المفخخة أغلبها بالحساسيات ولم يختبروا بَعدُ منطقها الحاكم بإعلاء العلاقات العامة والتشبيك والتعارف على ما سواها. مدوّنين من خارج الوسط البيروقراطي والمهني للصحافة والأدب والإعلام. شبّان يحدوهم فقط همّ إتاحة منفذٍ لهم لكتابةٍ حرّة قد تشكل لاحقاً حلقةً ما في سلسلة التحريض وتحدي السلطات. كل السلطات وأولها سلطة الكتابة.