حيث ضيّعنا القلب

حيث ضيّعنا القلب

21 يونيو 2017
+ الخط -
صباح السبت وازدحام المتجر الكبير، الصف الطويل جداً أمام نقطة المحاسبة، وهو، مفرط في فرنسيته، يلتفت كل قليل وينظر إلي، نظراته تحمل استغراباً، لا استنكار ولا إعجاب فيها، إنه فقط يستغربني، أحاول أن أتناساه، أو أن أبتسم له، الابتسامة هنا ليست كما في بلادنا، ولا تجرّ عليك تهماً، لكنه لا يكف عن الاستغراب.

في الطريق إلى المنزل، يوقف الطفل دراجته على طرف الطريق ويحدّق بي، مستغرباً، إنه عربي، ليس منطقياً أن يستغربني، أبتسم له كما أبتسم لكل الأطفال والحيوانات الأليفة التي ليست أليفة جداً، ويستمر بالتحديق حتى أغيب في المنعطف. 

في البنك، ترمقني الموظفة بنظرات غريبة، أتأكد أنني أقف خلف الخط الأصفر، أتأكد من أنني لست في صف ذوي الاحتياجات الخاصة، لا أفعل شيئاً غريباً، ولا أبتسم، أكفّ عن التحديق بها وتستمر برمي نظراتها من حين لآخر. 

في المترو ليلاً في باريس، لا أحد يستغربني، لا أحد ينتبه لوجودي، وصديقي يغني، إنه يغني أغنية للصبوحة الشحرورة، كنت أغنيها في رأسي. 

أُدرك لاحقاً أن الفرنسي استغرب "كتمت هواك زماناً في الفؤاد، وفي أنين الروح سرّ حكايتي"، استغرب عادتي في تكرار ذات العبارة من أغنية واحدة على مدار يوم كامل، أمارسها في المنزل حيث لا تخجل أختي من إسكاتي. 

توقفت الدراجة على لحن "مشتاق للناس كتير لحارة أهلي والبيت، لضحكة شي ولد صغير عميحفر كلمة عالحيط"، استغرب فتاة عربية تغني بكل نشازها اشتياقها لناسها. 

وفي مترو باريس ضيعنا القلب، "عالضيعة يما عالضيعة، وديني وبلا هالبيعة". ولم يستغرب أحد في خط مترو العرب بعد منتصف الليل فتاةً تغني، ويشاركها صديقها الغناء. 

نحارب الغربة بالأغنيات، دون أن يعنينا جهلنا الكامل بالطبقات، دون أن نهتم بالخروج عن اللحن في عالم خارج عن مساره، دون أن يزعجنا تكرار "الكوبليه" ذاته في عالم لا يفعل شيئاً سوى تكرار ذاته، دون أن نعتذر عن إزعاج الضجيج.

باب شرقي حيث "متل هالأيام قلبه كسر قلبها لفرح"، بيروت حيث "كنتو دايماً عكس بعض والشبه يمكن فراقكم"، حلب حيث "فيه من طبعك فيه من روحك، فيه كل اللي بتتمنيه". وباريس حيث "جيتِ تبيعي كبوش التوت، وضيعتِ، ضيعتِ القلب ببيروت"، متبوعة كلها بـ"والله فهمنا" من أختي. 

القصة أكبر من شاب بعد الكأس التاسع في بار رخيص، يغني بلغة غريبة عن محيطه، وتقع بحبه "البار تندر"، الحياة ليست فيلماً أو رواية مبتذلة، وليست المسافات معادلاً للغربة.

لماذا لا تفهم معلمة الفرنسية استخدامي للضمير "حيث" مع الأغنيات؟

دلالات

D01D4959-8EBE-4210-8833-C0B867C4E8A3
فرح يوسف

مدوّنة سورية، مواليد 1993. خريجة كليّة العلوم السياسيّة.