جورج وسوف وسعد الحريري وصفيّة...

جورج وسوف وسعد الحريري وصفيّة...

15 نوفمبر 2017
+ الخط -


حسناً. كيف نكتب عن الوطن؟ وما هو الوطن أصلاً؟ لا أملك أي ذكرى جميلة على هذه الأرض التي قيل لي إنها وطني. لا أملك تعلّقاً بالأرض والتراب، ولا بالبحر، ولا بالجبل القريب من البحر نفسه.

لا تدغدغ فيروز في داخلي مشاعر فخر ولا حنيناً لشيء مجهول، ولا تنتفض لبنانيتي عندما أقرأ تغريدة لسعودي يشجّع على قصف بيروت. أبتسم فقط. هذا حدّي الأقصى من الانفعال عندما يتعلّق الأمر بالوطن.  

أمشي في شوارع بيروت، أشعر أنني قدمان فقط. قدمان تحملان جسداً وتسيران في شوارع لا تشبهني. أضع سمّاعتين في أذني، وأسمع أغاني من بلاد قريبة. ثمّ أقرأ على الحائط الجملة الكليشيه نفسها عند الحائط الممتد من شارع الحمرا إلى شارع بليس "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟". يسألون السؤال ولا يجيبون عليه. ما هو الوطن؟

أمي المرعوبة منذ استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، أبي الذي يأخذه الألزهايمر ويعيده إلينا ألف مرة في اليوم، صديقي الذي تبحث له والدته عن عروس، الطائرات التي تطير وتغطّ على أراضينا حاملة مغتربين نكرههم، لأنهم عرفوا كيف يخرجون من هذه المنطقة أحياء، الصور المعلقة على جدار المكتب عن اليوم الذي ظننا فيه أننا سنسقط الحكومة.

صورة أخرى لمتظاهرة في بيروت تحمل صورة لعلاء عبد الفتاح، عبارة "بلبس متل ما بدي وبحكي متل ما بدي" المطبوعة على حائط في منطقة الأشرفية. مقالات إلياس خوري المطبوعة والموضّبة بعناية داخل درج في غرفة النوم. صورة بشّار الأسد التي أضفنا إليها أذني ولسان إبليس وشارب هتلر. رائحة زيت الزيتون التي تحتل فضاء القرى في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني، زحمة السير اللامنطقية في كل ساعة من كل يوم من كل سنة، أغاني الثمانينيات والتسعينيات التي نتعرّف عليها مجدداً، صور وروايات وموسيقى رميناها حرفياً بعدما اكتشفنا أنّ أصحابها "المناضلين" يحبون الدكتاتوريات. قصص حبّ مبتورة أو بعيدة أو مستحيلة، صحافيون وكتّاب نتجرأ على تحطيم هالاتهم. أسرار عن هذا الشخص أو ذاك نتناقلها ونحن مقتنعون أنها ستبقى أسراراً.

الحقد الذي راكمناه من ميراث ترك لنا بعد انتهاء الحرب الأهلية، الكوابيس التي تقتحم رؤوسنا ليلاً عن طائرات تقصفنا وتبعثر أشلاءنا، رائحة الملاجئ التي التصقت بجلدنا منذ الطفولة، علب البيكون التي كنا نأكلها على صوت المدافع، أغانٍ وطنية رخيصة وفنانون معدومو الموهبة، مدرّس التاريخ الذي كان يخبرنا كل يوم أننا أعظم شعب في العالم، وأن لبنان أجمل بلد في العالم، مدرسة الجغرافيا التي كانت تسخر من مدرّس التاريخ إياه.

غالباً هذا هو الوطن. كل ما عدا ذلك، خطط وشعارات كبيرة، أكبر من أحلامنا الساذجة جداً. كلام كبير يقال اليوم عن القومية اللبنانية، عن رص الصفوف، عن مواجهة الخطر الخارجي. يتحدّث الرجل المستقيل أو المخطوف أو البطل عما حصل معه. أخفض صوت التلفزيون، وأضع سماعتي الهاتف في أذنيّ. جورج وسوف ينبعث من تطبيق ساوندكلاود: "لعود تاني لا أنا حيران ولا محزون ولا فرحان... ولا بشبع غنى وألحان ولا بحكي مع النسمة". أتخيل سعد الحريري مستعيداً الأغنية. أضحك كثيراً بصوت عالٍ وبسذاجة. العبث أيضاً وطن.  

0E29123B-74A8-4275-B27D-5F245E11C507
ليال حداد
صحافية لبنانية؛ رئيسة قسم المنوعات والميديا في "العربي الجديد".

مدونات أخرى