فجأةً... أصبحت كاتباً

فجأةً... أصبحت كاتباً

09 أكتوبر 2017
+ الخط -
كنتُ أحلم بأنْ أصبح كاتباً مشهوراً منذ زمن بعيد، عندما بدأت بإلقاء قصائدي الأولى في الفصل، أمام جمهوري الصغير، بعد اتفاق شفويّ مع مدرّس اللغة العربيّة العطوف محمّد المؤنس الذي وافق على منحي الدقائق الأخيرة من حصص أيّام الخميس لأقرأ قصصي وأشعاري.

كانت أكثرُ قصائدي في ذلك الوقت عن الحبّ، أبثّ فيها شكواي من الصدّ والفراق، ولا يفصلني عن الحبيبة قاسية القلب إلا متر ونصف المتر، فهي تجلس في المقعد الأوّل، ويلاحظ التلاميذ الحمرة على وجهها عندما أنظر إليها أثناء الإنشاد وأقول معاتبا:

 يا ناكرة الجميلِ،

أحَبّكِ قلْبي وقلبُكِ صخرُ!..

وبعد سنوات المراهقة نجحت في البكالوريا (الثانويّة العامّة)، وذهبت إلى الجامعة حيث صار الجمهور غفيرًا.. كتبت المزيد من الشعر، وكوّنت فرقةً مسرحيّةً هاوية مع مجموعة من الأصدقاء.. وتولّيتُ تأليف النصوص فكانت الحصيلة أربع مسرحيّات سياسيّة ساخرة أوّلها "محكمة أمن الشعر" التي تنتقد نظام بورقيبة، وآخرها "إعلان ضياع" التي تعرّضت لانقلاب السابع من نوفمبر... 

ولم يمنعني الانشغال بالكتابة المسرحية والتمثيل من النجاح والتخرّج أستاذا للغة العربيّة في 1991.. ثمّ عُيّنت مدرّساً ودخلت إلى معترك الحياة كما يُقال، وشغلتنا أموالنا وأهلونا، فتزوّجت وكوّنت أسرة... وفي اليوم الموعود، توجّهتُ مع جموع الغاضبين إلى وزارة الداخليّة وهتفت بأعلى صوتي: "ارحل.. ارحل.. الشعب يريد إسقاط النظام!.."، فساهمتُ بذلك الصراخ في خلع الرئيس الذي يقيم اليوم معزّزا مكرّماً بالمملكة العربيّة السعوديّة.

في تلك الأيّام الحماسيّة، استيقظ الكاتب بعد سبات عميق، وبدأ يخطّ مقالاته الأولى التي وجدت سبيلها إلى النشر بصحيفة "القدس العربي"، وبعد فترة وجيزة، تفطّن المحرّرون إلى موهبة الرجل في الكتابة الساخرة فدُعي إلى المساهمة في التحرير بزاوية قارّة. وهكذا صرتُ أطلّ على القرّاء أسبوعيّا بمقال ساخر من الطراز الرفيع (بشهادة القرّاء)، مقابل مكافأة (لا أعلن عن حجمها مخافة الحسد!)..

كنتُ مفاوضاً بارعاً في تلك الأيّام!... وعلى أيّة حال، لم تكن سعادتي بتلك المكافأة الرمزيّة بحجم الفرح الكبير الذي داهمني عندما نشرت الصحيفة مقالي الأوّل وعنوانه "بلاغة الرسم ورسم البلاغة".. كان ذلك في مطلع العام 2011، وكانت الفرحة بالفعل لا توصف حتّى أنّني هاتفتُ أخي الذي يعيش في لندن لأخبره بذلك الحدث الفريد من نوعه.. 

قلت له: "انهض يا رجل فقد حقّق أخوك حلمه القديم وأصبح كاتباً، اخرج واشتر صحيفة القدس لتقرأ مقالي عن الثورة والثوّار"، فتثاءب قائلا: إنّها الخامسة صباحاً.. لقد أفزعتني يا عبد الرزاق!

أعلمُ اليوم أنّني بالغت ربّما في التعبير عن سعادتي بذلك الأمر، لأنّني اكتشفت بعدها عالماً مليئا بخيْبات الأمل، فالمسألة أشبه بمغامرة صعبة لا تخلو من مفاجآت قاسية... ومع ذلك أضمّ صوتي للكاتب المصريّ  يحيى الطاهر عبد الله وأردّد معه قولته الجميلة: "أنا كاتبٌ حقّــقتُ لنفسي فرحي الخاص بما كتبتُ وهذا يكفيني".

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.