زيارة غوته

زيارة غوته

28 أكتوبر 2017
+ الخط -

معظم معمار مدينة فرانكفورت تهيمن عليه أبراج حديثة البناء لبنوك وشركات عملاقات لصناعة السيارات أو الخدمات، حتى إنها من المدن التي قلّما يفكّر زوّاها في التنزّه العشوائي فيها. رغم ذلك، فإن هذه العملية لا تخلو من مفاجآت سارة.
خلال السير بين تلك البنايات العالية وواجهاتها الزجاجية، انتبهتُ صدفة إلى إشارة: "بيت غوته". عادة يجري ربط الشاعر الألماني بمدينة فايمار التي عاش فيها معظم حياته ومات فيها، وفي المقابل، يُنسى أنه من مواليد فرانكفورت.
نسيان مدينة المولد أمرٌ قد يحدُث حين تتغيّر ملامح المدينة جذرياً مع العصور، كما هو الحال مع فرانكفورت، حين يجري ربطها بعالم المال والأعمال وليس بعوالم الأدب والفن، وقد يحدث أيضاً بسبب إهمال بيت الولادة، فلا يبقى منه أثر كبير، وهذا مثلاً حال البيت الذي وُلد فيه عبد الرحمان بن خلدون في مدينة تونس العتيقة.

غير أن البيت الذي شهد أولى صرخات غوته ينعم برعاية مختلفة تماماً، إنه ورغم كونه غير مرئي بين المباني الضخمة التي تحيط به، فهو معلم حقيقي، نموذج معاصر لظاهرة الاعتناء (المبالغ فيه) بكل ما هو تاريخي، تلك الظاهرة التي شرّحها ناقد الفن النمساوي، ألويس ريغل، في كتاب "العبادة الحديثة للمعالم" (1903).
كانت أهم فكرة أطلقها ريغل هي أن "القيمة التذكارية باتت تمنع المعلم من أن يغرق في الماضي، حتى إنه يجري منع الطبيعة أو الاستعمال البشري من أن تفعل فعلها فيه، رغم أن هذه العوامل هي التي تجعل من القديم قديماً". هذه المفارقة واضحة جداً في "بيت غوته"، إذ إن هذا المبنى يبدو للناظر في مشوار حياته مكاناً يريد الهروب منه.
سيرة غوته (التي لا ينسى المعلم أن يعرضها في صور توضيحية) هي حكاية مقاومة الجذور؛ اختيار العيش في فايمار بعيداً عن أسرته وإرثها، ثم رحلات إيطاليا لتجاوز ذهنية عصره الألماني، ومجمل حياته كانت عبارة عن هجرات ونزهات بين العلوم والأجناس الأدبية واستجلاب أكثر من ذائقة فنية.
كل ذلك يعرضه المعلم الذي يستقبل الزوّار يومياً بتفاصيله الصغيرة؛ عبر قاعات الجلوس وأواني المطبخ والمكتبة، وتوضيحات عن الكيفية التي حرص عليها والد غوته في تربية ابنه، والفن الذي كان يستهلكه غوته الصغير، وكيف كان يرى الشارع من غرفة نومه. تفاصيل كثيرة تحاول أن تعيد غوته من جديد إلى مدينة فرانكفورت، واستثماره "سياحياً".

ومع تضخّم هذا البعد السياحي؛ والذي بدا لي خانقاً لروح غوته ومناخاته، هل يمكن القول إن "إهمال" بيت ابن خلدون في تونس أفضل من "العناية المشدّدة" ببيت غوته في فرانكفورت؟ يبدو كلاهما في المحنة نفسها وإن تناقضت أشكالها.