هكذا علّمتني أن أحيا

هكذا علّمتني أن أحيا

09 ديسمبر 2016
+ الخط -


في ذكرى رحيلك هذه الأيام، لا تلين الكلمات ولا تسعف العبارات.. إنها سطوة البقاء الرمزي، لمورد فكري وروحي فاقت حجبه المألوف، وخرجت من أسر العادة، لتنير دروب المعرفة، وتشحن كل متعطش إلى الطاقة الوجدانية والذخيرة الروحية الواسعة للانطلاق نحو الإبداع والفعل والتغيير
.


قد لا أبالغ إذا قلت إن ما تركه "مولانا" لم يوفر أحدٌ من المتصوفة مثيلا له، إذ كان له عظيم الأثر في العالم الإسلامي، وخاصة على الثقافة الفارسية والعربية والتركية، كما حظيت أعماله المترجمة بشهرة كبيرة جدا، لأنها كانت وستبقى مرجعا لكل سالك طريق المعرفة الذي هو نفسه طريق المحبة.


في مثل هذه الأيام ترجل "مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي" عن صهوة الدنيا، وظلت الروح خالدة، بما سطرته من مجد لم يكن زائفاً ولا هوساً فانياً، بل استغراقاً في التعلق بالله، من خلال تجربة غنية، بدأها بالفقه الإسلامي وبرع فيه، ثم ذاق حلاوة "التصوف" فترك التدريس والتصنيف ليرتقي في معارج التصوف.


كان للعلاقة القوية التي ربطته بالشاعر الفارسي، شمس الدين التبريزي، منذ قدومه إلى قونية عام 1244م، عظيم الأثر عليه، فكانا على قلب رجل واحد لا يفترقان إلا لتجمعهما المحبة، إلى أن امتدت يد الغدر إليه واغتيل سنة 1248م تاركاً "مولانا" في حزن كبير على صاحبه، نظم فيه أشعاراً جمعت في ديوان "شمس الدين التبريزى أو الديوان الكبير".


آمن "مولانا" الرومي بالتوحيد مع حبه لله عز وجل، وبذل لذلك محبة صادقة غرسها في النفوس وهو يردد إنّ"الحياة أقصر من شهقة وزفيرها، فلا يجب أن تغرس بها سوى بذور المحبة"، بذور سقاها "الذكر " وهذبها "الشعر" و"أحيتها" الموسيقى التي تحولت إلى "رقصات روحية" لأتباع الطريقة المولوية، نظرا لـ "التطهير" المتحصل منها، حيث التخلص من الأنانية ونشدان "الكمال"، ثم العودة إلى الواقع بنضج أكبر  يفيض بالمحبة.


محبة هي المبتدأ والمنتهى عند "مولانا"، إنها الحقيقة الجوهرية الساطعة التي تنغرس في النفوس فتجعلها متفاوتة.. إنها موجودة فينا وحولنا، أو بعبارة أخرى هي "تذكرة الحياة" التي لا تنتهي صلاحيتها لأنها تقودك نحو نفسك، تحاورها لتطهرها وتزكيها.


هكذا تتحدد القيمة الحقيقية للإنسان عند "مولانا"، فيتسلل النور إلى الباطن، وينجح المحب في كسر الحواجز التي كانت قد بنيت بينه وبين نفسه، كما نجد مولانا يعلنها واضحة قوية حينما يقول "أيها القلب! لماذا أنت أسير لهذا الهيكل الترابي الزائل؟ ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة، فإنك طائر من عالم الروح...إنك رفيق خلوة الدلال، والمقيم وراء ستر الأسرار فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني؟ انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج عالم المعاني... إنك طائر العالم القدسي، نديم المجلس الأنسي فمن الحيف أن تظل باقياً في هذا المقام".


إنه منهاج الحياة الذي قدّمه مولانا إلى كل العشاق والمحبين المتعطشين إلى الحياة، مترفعاً عن الصور والأشكال وثقافة الترف المادية، التي أفرغت الكائن الإنساني من سائر أبعاده الإيمانية إلى سبر أغواره النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان، فذابوا كالملح لم يبق كفر ولا إيمان.. شك ولا يقين.. تشع قلوبهم.. كوكب تختبئ فيه السبع سماوات.

 

 

حنان النبلي
حنان النبلي
صحافية مغربية، حاصلة على ماستر متخصص في الدراسات الأدبية والثقافية في المغرب. من أسرة "العربي الجديد".

مدونات أخرى