ما بين الموت والحياة

ما بين الموت والحياة

27 ديسمبر 2016
+ الخط -


هل سبق أن حضرت عملية تشريح؟ هل تخيّلت يوماً أن تكون هناك مسجّى على ذات سرير المشرحة؟ هل تفقدت قلبك وأنت تقف أمام قلب منزوع من مكانه وأشلاء مفصولة وجسد بارد على أهبة التشريح؟ هل تساءلت عن الخيط الرفيع ما بين دفء الحياة وصقيع مستودع الأموات؟ هل جربت أن تمعن النظر في ميت فارق الحياة منذ سويعات، وآخر دهسته سيارة تسابق الزمن، ورضيع عثر عليه في قمامة.

هل تجرأت على فتح ثلاجة يرقد فيها أموات تعفنت جثثهم، وآخرون ما زالوا في انتظار تأشيرة العبور إلى القبر؟ هل قاومت رغبة البكاء وأنت ترى عائلة فقيد تشيعه بنظرة أخيرة والكفن الأبيض يلفّه؟

لا يتعلق الأمر بمقدمة رواية رعب أو سلسلة من الخيال العلمي، بل بحقيقة صادمة عشتها داخل مركز الطب الشرعي الرحمة بالدار البيضاء (كبرى مدن المغرب)، لأنقل لكم بعض تفاصيل الرحلة الأخيرة للأموات: المشرحة.

خلف البوابة الكبيرة لمركز الطب الشرعي بالرحمة تبدأ حياة أخرى، تتعلق بالأموات، مبنى كبير يخيم عليه الصمت، له بابان، أولهما يطل على شارع رئيسي، يعبر منه موظفو الطب الشرعي والعاملون إلى داخل المركز، وثانيهما مخصص لدخول وخروج الجثث من وإلى المركز، وهذا الباب مفتوح على باحة واسعة يقابلها مرآب تصطف فيه سيارات نقل الأموات.

صمت مطبق يخيم على المكان، اللغة المتداولة هنا تجتمع حول معجم واحد، بل إن العبارات تضيق لتلتصق أكثر فأكثر بعالم الأموات (جثة، موت ملغز، اعتداء مفض إلى الوفاة، قتل عمد)، حركة سيارات نقل الأموات دؤوبة، جثث تقاد إلى المشرحة، وأخرى تُفحص ليحدد سبب الوفاة، وأخرى يحتفظ بها حتى تحدد هوية صاحبها، رخص دفن تُستصدر في حينها.

على الجانب الأيمن، مكتب للأرشيف مهمته المحافظة على كل الوثائق الإدارية التابعة للمركز، وكذا التقارير المفصلة الخاصة بتشريح وفحص الجثث.

كنت على موعد مع الدكتورة فريدة بوشتى الطبيبة الرئيسية المسؤولة عن المستودع والطبيب جمال العباسي من نفس المركز، وقفا بالقرب من طاولة بها رفات عظام قديمة مرصوصة بعناية دفعتني إلى استعجال الوقت الذي أدخل فيه إلى قاعة تشريح الموتى، حيث ينام الأموات من المغاربة والأجانب داخل ثلاجات باردة.

ارتديت وزرة بيضاء وحذاء بلاستيكياً وواقياً للأنف، كنت أقوم بهذا الأمر بشكل حماسي ودون أن يخالجني أدنى شعور أنني أخطو نحو مشاهد الفزع الحقيقية البعيدة عما صورته الأعمال السينمائية.

داخل المشرحة، ارتفعت دقات قلبي، كان هناك ثلاثة مساعدين يهيؤون جثة رجل خمسيني للتشريح، في الطاولة المجاورة ميت مشوه الوجه والأطراف، ركبته مفصولة من مكانها، وقدمه اليمنى دون أصابع، وعلى الطاولة الثالثة انطفأت روح ثلاثة أجنة باكرا.

شعرت بدوار يلف رأسي ورغبة في الهروب من المشرحة فورا، كانت الدكتورة فريدة تحدق بوجهي الذي أخذ لونه يتغير، بالمقابل، هدوء غريب كان يسكن الطبيب العباسي والمساعدين، لأن الأمر يتعلق بـ "مشاهد اعتيادية".

كانت الجثة الممددة فوق طاولة حديدية باردة، عارية إلا من حفاظة تستر العورة، الصفرة التي كستها لا تخطئها العين، تحسّستها بيدي فإذا بها باردة جدا.

تحت الجهة الخلفية من الجثة وضعت قطعة خشبية لرفع ظهر الراحل إلى أعلى والمساعدة في سقوط الذراعين والعنق إلى الوراء، لتسهيل عملية التشريح، حسب توضيح الدكتور العباسي.

شرعت الدكتورة بوشتى ومساعدوها في تشريح الجثة، شقت شقا عميقا وكبيرا على شكل حرف Y، بدأ من الجزأين العلويين لكلا الكتفين نزولا ليلتقيا في الجزء الأمامي من الصدر.

كانت العملية تجري بدقة متناهية وباستعمال مشارط وأدوات خاصة، قاومت الرغبة في الهروب، وأنا أرى بوضوح جوف الآدمي، الرائحة الكريهة تنتشر وتعم المكان أكثر فأكثر، نعم، لقد شق صدر الميت وظهر ما تستره طبقات الجلد، بحثا عن حقيقة ضائعة.

لم تسلم شرايين الدم الأساسية من الفحص لمعرفة تأثير مرور بعض المواد الغذائية في الأمعاء خلال عملية الهضم على سبب ووقت الوفاة. ووجود أي دليل على تناول مادة سامة، حسب الدكتورة فريدة.

بمشرط خاص، وبمهارة واضحة، شقت الطبيبة عنق الميت، عاينت الحنجرة جيدا، ثم قالت لمساعديها بثقة: "لا أثر لأي مادة سامة".

اكتفيت بالصمت والذهول يلفني، لم ينته الأمر عند هذا الحد، مرة أخرى سحبت القطعة الخشبية لرفع مستوى الرأس، ولفحص الجزء العلوي منه قامت الدكتورة بإجراء شق واحد خلف الأذنين، ثم سحبت فروة الرأس حتى غطت وجه الميت، فيما سحب المساعدان الجزء الخلفي، فظهر كسر كبير على الجمجمة، "هذا ما نبحث عنه"، قالت الطبيبة وهي تدون في تقريرها، وأخيرا فك لغز الوفاة.

استغرقت عملية التشريح حوالي ساعة، كان أهل الميت في الخارج يرقبون النتيجة والجثة أيضا لتوارى الثرى، بينما كان الفضول يأكلني عن كيف يعاد تشكيل الجثة من جديد.

بإبرة كبيرة وخيط سميك جداً خاص، قام المساعدان بإشراف الدكتورة بوشتى بإغلاق فتحتي الصدر، خيطا معا وأعيد غطاء الجمجمة إلى مكانه مرة أخرى، غُسل جسد الميت ثم لف في كفن أبيض، وسيق ليشيعه أهله من الباب الثاني حيث تنتظره سيارة نقل الأموات.

لم أستطع أن أغالب دموعي وأنا أرى أهل الميت يطبعون القبلة الأخيرة على جبين ميت غرق في البياض وحمل إلى القبر.

بالكاد كنت أشعر بخطوات قدميّ على الأرض، وأنا أغادر المكان، لازمتني تلك المشاهد المفزعة في الصحوة والمنام، كانت أقوى مما تخيلت، عادت بي إلى ترتيب الأوراق عن موت قد يفاجئنا في أي لحظة، وحياتنا.. حياتنا هل نحياها؟ هل نجيد ذلك؟.. إننا نقطعها سريعا بينما نظن أننا نملك دهرا لنتصالح ونصلح ونقوم بكل الأمور التي نؤجل.. هذا المكان بارد جدا كما قبورنا، أي حرارة سنحمل معنا إليه من الحياة؟

 

حنان النبلي
حنان النبلي
صحافية مغربية، حاصلة على ماستر متخصص في الدراسات الأدبية والثقافية في المغرب. من أسرة "العربي الجديد".

مدونات أخرى