أريحا وبائع المدينة

أريحا وبائع المدينة

12 ديسمبر 2016
+ الخط -
ربما كنت أفضل أن أكون سائحاً نيجيرياً، متديناً كان أم مجرد فضولي، أسير خلف مراهق محلي، يتحدث لغة إنكليزية رديئة، ليست على أية حال أفضل من إنكليزية أهل نيجيريا. يجهل تاريخ المدينة ولا يفكر سوى ببقشيشه الذي يتزايد طردياً مع عدد الكذبات التي يسوغها: "هنا اغتسل المسيح، هناك جلس، ومن هنا سيبعث بإذن الرب... آمين".


لكني ولدت في الداخل وهو ما جعل مني سائحا مقيما أصابه ملل السكون. إذ ما الفائدة التي أجنيها من ميلادي بأقدم مدن العالم؟ تلك المعلومة التي مللت سماعها والتي كنت أعتقد أن لها علاقة مباشرة بالجو المغبر للمدينة! "أنت تعيش في أقدم مدن العالم" معلومة لطالما شككت في صحتها. إذ ما معنى هذه المصادفة الخبيثة التي تجعل مني أحد سكان أقدم مدن العالم؟


لكن أياً كان، وعلى الرغم من جميع الشكوك والملل والغبار، لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالاصطفاء. تقع أريحا في مكان ما بين القرية والمدينة، بمعنى أنه لا يكفي أن يحظى المكان ببلدية ليكون مدينة، ولا أن يستثمر بدجاجتين وشجرة فيكون قرية، وبهذا كانت أريحا تشبه كثيرا ما يحفظه الناس عنها، "أريحا الاستراحة"!


والحقيقة أنها كانت استراحة جميلة من القرية والمدينة معا. على سبيل المثال، شوارع المدينة لا تساعد على ركوب الدراجة الهوائية، ولا تسمح أعراف القرية بهذا الحق للفتاة. أنا حظيت بشوارع القرية وحرية المدينة، فتعلمت كباقي أبناء المدينة ركوب الدراجة في سن مبكرة.


تكتسب هذه التجربة هنا أهمية كبرى لدى الطفل، حيث تعد من أهم مؤشرات النضج لديه؛ فهو لا ينفك يتباهى أمام الجميع بقدرته على التوازن بعد أن تخلص من عَجَلتَي الدرّاجة الداعِمَتينْ. يكسبه ذلك شعوراً بأنه انتقل إلى مرحلة متقدمة جديدة، تشبه كثيراً انتقاله بين الروضة والمدرسة.


وهنا لا مواسم زيتون ولا أراضي شاسعة لنزرعها. لكن شاءت الظروف ألا أتغيب تماما كأي مدني عن هذا الجو. كان زوج خالتي مهندسا زراعيا يعمل في زراعة المشاتل، وهو نوع صعب ودقيق من الزراعة، عبارة عن كرتونة بحجم سطح مكتب صغير مليئة بالثقوب، توضع البذرة بالثقب وتغطى.


لم يكن لدي أي مشاكل مع بذور الكوسا العملاقة. أما بذور البندورة فكانت بحجم حبات الرمل. وبالثقب الواحد، كان يتساقط دزينات منها ولا أستطيع إنقاذها لأنها تكون قد غاصت تماما بالثقب المليء بالتربة. كانت حبات البندورة تأتيني في المنام وقد فاض بها الزحام، تصرخ وتشتم تلك الساعة التي تعلمت بها الزراعة.


وبين قطط المدينة المدللة و"بركسات" الدجاج والأغنام في القرية، حظيت أنا بعشر دجاجات وعشرة أرانب وخروفين وديك حبش؛ ولمرة وحيدة واستثنائية كان لدي غزال.

كانت حيوانات خفيفة، لا تحتاج لكثير من الجهد. وكانت تعيش جميعها في مكان واحد نضطر أحيانا لتقسيمه في حال وقوع شجارات.


لم أكسر حتى اللحظة حاجز الخوف بيني وبين الحيوانات، لكن حين تحظى بهذه الحيوانات اللطيفة الخفيفة لا يمكنك أن تتجاهلها. كانت الخراف حيوانات تحب اللعب، يكفي أن تركض أمامها حتى تدخل معك في سباق ركض غير منته.


مرة فعلت ذلك و كانت النتيجة كارثية، اندمج الخروف في اللعبة أكثر مما يجب وأنا ارتعبت أكثر مما يجب؛ فسقطت أمامه وقفز علي وأصبت قدمي. لكن تجربة إرضاع الغزال كانت دوما الأجمل على الإطلاق.


كان لدى جدي مخبز أقصده كل يوم بعد انتهاء الدوام المدرسي. وأمام الآلة التي تقذف أرغفة منفوخة وساخنة، كنت أقف بمتعة خالصة، كنت آكل رغيفين أو ثلاثة على الأقل. ذلك كان قبل أن تعلمني المدينة عدّ السعرات الحرارية.


وقبل المدينة، كان لدينا طبيب عائلي يزورني كل شهر مع قدوم الدورة الشهرية، حتى ولو حدث ذلك بعد منتصف الليل. وحين استبدلته المدينة بالمسكنات، أدركت موهبة المدينة في التسكين، المدينة التي تسكن حنينا للشجر بزراعة الشرفات.


بعد انتقالنا من أريحا تابعنا زيارتها نهاية كل أسبوع. عزز ذلك مفهوم أريحا الاستراحة أكثر. كانت أريحا بالحقيقية استراحة لا تشبه تلك التي تقع في الأذهان على حدود الأردن. كانت استراحة تقع على حدود القرية والمدينة وحدود نهاية الأسبوع... اليوم أسمع نداء بائع المدينة "ريحاوي يا موز" فأنسى الموز، وأتذكر جمال اللعب في مزارعه المظلمة، فيتجدد لدي الشعور بالاصطفاء.




C0B19A4A-6C09-4D2B-B9CD-AA2C7B12C7F1
تسنيم سدر

كاتبة من فلسطين. حاصلة على بكالوريس محاسبة، من جامعة بيرزيت. مواليد أريحا عام 1993.تقول:لم أنجح في أن أكون كائناً اجتماعياً خارقاً؛ وخوفاً على نفسي من الملل، رحت أقرأ. لكن لم يعد يرضيني أن أبقى على الجانب الآخر. غرت من الابتسامة التي يرسمها الكاتب على وجهي وأردت واحدة مثلها لي...

مدونات أخرى