نَوبة شِعر

نَوبة شِعر

01 ديسمبر 2016
+ الخط -

دعانا إلى حفل توقيع ديوانه الأوّل، وكنّا فوجئنا من قريبٍ أنّ ثمةَ علاقة له بالشّعر والأدب؛ فقد عرفناه بقّالاً ظريفاً، خفيفَ الظلّ والعقل معاً؛ يُرى أحياناً وهو يركب دراجة للصّغار يجوبُ بها حاراتِ المدينة وشوارعَها، ويُسمع دائماً وهو يصيحُ ضاحكاً على فلان وفلانة بصوتٍ مرتفع في قارعة الطريق، ويحتفظ في كهولَتِه بلقب طفوليّ يطلقُه عليه الناس، وينقُشُه هو بنفسه على الجُدران، وهو لقبٌ رسمته عليه أمُّه منذ كان رضيعاً!

تقاعدَ عن وظيفةٍ عسكريةٍ يتقاضى منها معاشاً معقولاً، فصارَ يقضي ليلَه إما في صيد السَّمك، أو لعب الورق، ويقضي نهارَه أمام دكّانه في ثرثرةٍ ملولةٍ عن بطولاتِه اللاهية، وغرامياتِه المُتخيّلة، حيث يظنُّ في نفسه من الوجاهة والظَّرف ما يعجبُ النساءَ ويفتنهنّ.

في المقابل، كنا نشفق عليه مما يكابد من سطوة امرأته عليه. يشهد بذلكَ شخصه الهزيل وجسدها الربيل! ولعلَّ قوتها معه وصرامتها في مواجهة شطحاته، هما السرّ في أن تحفظ داره، ويربى عياله، إذ هو لا يؤتمن على خطة، ولا يستقيم له وجه. فكان يهرب من مواجهتها ما استطاعَ إلى ذلكَ سبيلاً، فيقضي مطلع يومه نائماً حتى إذا أوشكت المرأةُ أن تعود من وظيفَتها في إحدى المصالح الحكومية؛ فرّ من داره إلى دكَّانه يدعو إليهِ أصدقاءَه، أو يغْلِقَه ليذهب هو إليهم!

وكان له في كل زمنٍ بدعة جديدة من نشاط يدفعه إليها نزوة طارئة؛ ومن نوباته تلك أن أتى بدفتر أبيض كبير الحجم طويل الصفحات، وضعه على طاولة الدّكان، وكتب على غلافه "ديوان شعر". ناداني ذات مرّة، وأنا قريب من عمر أبنائه: تعالَه.. اسمع قصيدتي الجديدة. ولم يكن لي علم بأن له قصيدة قديمة حتى أعرف الجديدة!

أعطيته حقّه من الانتباه والمجاملة، وكدت أنصرف لولا أنه أصرّ على البقاء لنتحدث عن مواطن إبداعه وبواطن بلاغته، وتفلتت مني نقدة يسيرة إلى أخطائه العروضية، وهو أول ما يصدم قارئ الشعر وسامعه من عيوب؛ فطلب مني أن أشرح له الأوزان الشعرية فيما لا يزيد عن دقيقتين! فعرضت عليه أن أعيره كتاباً في موسيقى الشعر وآخر في شعر العامية ليتعرف على بعض قواعد الفن وأربابه؛ فرفض رفضاً باتاً؛ لأنه لا يقرأ.. ولن يقرأ!

******

لم تمرّ نوبة الشعر هذه مرور الكرام. بل تواترت قصائده سراعاً، يسكبها في كل وقت وحين وهو جالس على دكة خشبية أمام دكانه، حتى فاض الدفتر عن آخره، فجاء بدفتر ثان وثالث، وقد شجعّتْه ثناءات أصحابه الأميّين، وزبائنه المدينين، ومجاملة هذا ونفاق ذاك! وسرعان ما قرّر أن ينشرَ ديوانه الأول، ليعلن من خلاله أنه مهدي القريض المنتظر ومسيح البيان العائد!

دفع ديوانَه المخطوط لصديق له، أديب يعمل بالمحاماة، وهو ظريف مخاتل؛ آتاه الله من بيان اللسان وقوة الحجة، ما يسر له الولوج إلى قلوب أصحابه، وإن كانت هوايته المحببة هي قلب الحقائق عن فهم، والانتصار للأباطيل عن وعي؛ والعبث في وقت الجد، والهزل في حال الشدة، لا يألو على شيء، ولا يهدف في حياته إلا إلى السخرية من هذا والضحك على ذاك، فإذا لم يجد من يسخر منه جعل من نفسه هدفاً صوب عليه نكاته. وإنّ له سماره الذين ينقلب إليهم كل ليلة يعيد عليهم حكاياته ويقص حيلَه (وقفشاتِه) وهم يتضاحكون!

أسهم الصديق المضل المبين في دفع صاحبه المهووس بالشعر إلى مزيد من النظم الكليل. وقد حفظ الشاعر الواعد له ذلك الجميل، وطلب إليه أن يكتب مقدمة لديوانه وتقريظاً لإبداعه، فأقنعه المحامي أن صفحات "المقدمة" الحق لا ينبغي أن توضع اليوم إلا في قلب الكتاب ووسطه تماماً؛ لا في بدايته إمعاناً في الجدة والتمايز، بعد أن أسهب له في فضل هذا الصنيع الجديد؛ فوافق الرجل وفرح بالفكرة!

طبِع الديوان على نفقته الخاصة، ودعا الشاعر أصدقاءه لحفل توقيع خطط له يكون مصوراً موثقاً؛ فجهز نسخه للإهداء، ودعا ضيوفه من متأدبين وغيرهم، وقد أوكل إلى المحامي الظريف تقديم الحفل وإدارته. فكانت الفرصة السانحة للصديق اللدود كي يفسد الأمر على طريقته، فشريط الفيديو الذي أحضر مدته ساعتان ونصف؛ استغرق المذيع الألمعي في ثرثرته وحده نحو ساعتين، وهو حكّاء ماهر، وللحديث شجون لا تنفصل وأسباب لا تنقطع، إذ قام بتقديم ضيوفه بإسهاب، ثم قام في النهاية بطرحِ طوفان من الأسئلة على صاحب الديوان الذي لم يجد وقتاً للكلام؛ إذ كلما هم بجواب قاطعه المحامي بسؤال جديد يحمل بداخله سؤالات أخرى لا نهاية لها، وهكذا دواليك إلى أن انصرم الحفل وانفض السامر، وانصرف كل في طريقه! وبات صاحبنا الشاعر المسكين ليلته مكظوماً مبهوتاً حائراً عما فُعل به!

غادرنا جماعة وقد حصل كل منا على نسخته المجانية المغلفة من الديوان؛ أحد الرفاق أعطاني نسخته تخلّصاً منها، والثاني تساءل عن إمكانية بيعها لتحقيق مكسب زهيد من ورائه. أما الثالث فقد قبّلها ثم رفعها إلى جبهته، قبل أن يضعها أرضاً إلى جوار جِدار؛ كأنها لقمة خبز لها حرمتها وجدها في وسط الطريق، وهي عادة ريفية موروثة!

******

لم يكنْ حفلُ توقيع الديوان هو الحلقة الأخيرة من النوبة الشعرية التي تعرض لها صاحبنا، فقد تطوّرت الحالَة إلى أنْ اعتمد نفسَه شاعرَ المُنَاسبات الرسميّ للبلدة؛ طرقَ أبواب الممدوحين يستدر منهم حلوانه، ومجالسَ المتأدبين يستمد منهم شرعيته، ونظم في رثاء بعض الراحلين ما يستدرّ به عطف الثكالى المفجوعين ليزيد من شعبيته، وأكْثَرَ من ذلك جداً.

كرّر بنفسه تنظيم ندوات ومهرجانات شعرية، دعا إليها أدباء حقيقيين ومبدعين موهوبين حشر نفسه بينهم حشراً، وفضّل نفسَه عليهم بما أنفق، حتى ذاع سِمْعُه في المدينة وعلا صيته في ضواحيها، أو هكذا خُيّلَ إليه الأمرُ فادَّعاه وروّجه. والحقيقة أنه بالفعل لفت نظر المثقفين وأشباههم، وانتبهوا أن الحركة الأدبية قد نشطت مؤقتاً بنشاطِه، لكن بصورة طارئة مفصلّة على مقاسِه تفصيلاً!

في إحدى القاعات الواسعة التي احتشدت بها جماهيرٌ مجلوبة ملأت القاعة على غير عادة صالونات الأدب في هذا الزمن؛ هم لفيفٌ من أصدقائه وجيرانه ومعارفه حضروا بنسائهم من ربات البيوت وبناتهم من ذوات الخدور، وأبنائهم من صّبية ومراهقين، معظمهم لم يعرِف للأدب سبيلاً من قبل، ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ؛ أغراهم بالمجيء إلى ما يشبه (الفَرَح) ودفعهم إلى الأمسيةِ دفعاً، ثمّ وزع عليهم قصائدَه التي سوفَ يُلقيها وهو على المنصة، وحدّد لهم في الأوراقِ المطبوعةِ بين أيديهم مواضعَ الإعجاب المناسبة وعبارات الإشادة المفترضة، وتواضع مع بعضهم على علاماتٍ خاصة، لينتبهوا -إذا هو بلغها- إلى أنّ عليهم أن يعلنوا انبهارهم عبر التصفيق الحاد والصفير العالي، ثم يطالبوه بإعادة المقاطع التي يظنها مميزة، فيستجيب لهم وينزل على رغبتهم؛ فيستغرق على المنصة وقتاً أطول، في تفاعل مثالي مع ذائقة الجمهور المرسومة سلفاً، كما أوصى مصوّر الحفلِ أن يسلّط عليه اهتمامه باعتبارِه واسطةَ العِقد وعريسَ الليلة.. كل شيء كان يُخطّط له بدقة وأناة!

******

أُعلن عنه شاعراً عظيماً مشهوراً، كما كان يرسم مستقبله الأدبيّ القريب. واتفقَ أن بدأت منافسات انتخاباتٍ برلمانية، فبَرز بوصفه شاعراً مأجوراً تحت الطلب، ووضع لنفسه (تسعيرة) لمدح من شاء من المرشَّحين، و(وتسعيرة) لهجاء بعضهم لصالح آخرين مضاف إليها (بدل مخاطر) محتملة. فاندمج بذلك في الحياة السياسية المحلية، ثم استغرق في كتابة ما يظنه شِعراً في قضايا عامة، انتقد فيه السلطة، وبالَغ في الأمْرِ مبالغة ظنّ معها أنه صَار مُناضلاً سياسياً مُستهدفاً من النظام.

استشعر المحامي المتآمر ما ألم بصاحبه من فتنة وهوس، فأظهرَ له إشفاقاً كبيراً، وأشارَ عليه بالحيطة والحذر؛ لأن الحكومة لا ترحم معارضيها، وتأبى إلا أن تفتك بمنتقديها، ثم أحكَمَ عليه الدائرةَ النفسية بأن سلّط عليه صديقاً آخر، لا يقل عنه لؤماً؛ انتحل شخصية شرطي وتقمصها باقتدار، ثم اتصل بأهل بيت الشَّاعر مهدداً ومتوعِّداً؛ فأسقط في يد الأديب المناضل، وخشيت أسرتُه الهلاك، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب.

تسلل ذات ليلة إلى مكتب صديقه المحامي على حين غفلة من الخفراء الذين ظن أنهم يترصدونه، فأخبره بما حدث له، وأباح له بما يخشاه، وكيفَ أنه أخفَى أوراقَه التي تحمل إبداعَه الذي أنفَق عليه مِن صحّته وعافيته، وكانَ مقياس عظمة القصيدة لديه تتناسب كميّاً مع ما دخنه أثناء كتابتها من سجائر وما تناوله من منبّهات، بدعوى التزاوج بين القريحة و(الكيف)؛ فهذه قصيدة استغرقت علبتي سجائر وأربعة أقداح من الشاي، وتلك المعلقة تكلّفت عشر علب وعشرين فنجاناً من القهوة، وهكذا. لكنه في النهاية، ذهب بدفاتره ودواوينِه إلى منطقة صحراوية نائية دفنَ فيها فلذات قريحته خوفاً من "البوليس السياسي"!

******

هدأتْ عاصفةُ التهديدات السياسية، وخفتت جذوة الصراع بعد انتهاء الانتخابات، واستقر الشاعر في بيته بعض الوقت، يطلب من الشعر غرضاً آمناً، فأوصله الحال وهو المراهق الكهل إلى التشبيب بحليلة جاره، زاعماً أنها تغازله ويغازلها كلما التقت الجسوم في الشارع أو العيون حينما تطل هي من شباكها المواجه لشرفته التي يعتكف فيها.

وأغلب الظن أنه لم يكن للجار ولا لامرأته علاقة بالشعر والشاعر حتى تثور لهما ثائرة، لكن ثرثرةَ الرَّجل في مجالسه الخاصة وشروحه للقصيدة وحواشيه المتنامية حول ردة فعلِ المرأة الخائنة المتجاوبة مع غزله الصريح قد وصلت إلى أسماع الجار المغدور الذي عزم على الفتك به؛ فاضْطُر الشاعر إلى الهرب، وترك بيتَه زمناً، ثمّ كانَ قرارُه النهائي بالهِجْرة والنزوحِ عن المدينةِ بأسْرِها إلى غيرِ رجْعَة!

7A068292-4EA5-4AA1-AD35-5D8A7ABAC4BB
ياسر غريب

كاتب مصري. حاصل على دكتوراه الألسن في الأدب العربي ونقده. من مؤلفاته: "استبداد التراث: قراءات صادمة في ثقافة الإلف والعادة"، و"ديوان شهاب الدين بن العليف المكي: تحقيق ودراسة"