يوميّات الميكروباص في مدينة مقهورة

يوميّات الميكروباص في مدينة مقهورة

07 مارس 2024
+ الخط -

يُعتبر أدب اليوميّات واحداً من أقدم أنواع الكتابة الأدبية في تاريخ التدوين. وبحسب الموسوعة البريطانية، تُعتبر يوميّات، ماركوس أوريليوس، واحدة من أقدم الدلائل على هذا النوع الأدبي، وهو نوع من الكتابة الشخصية التي تدوّن تجارب الحياة اليومية، الأفكار، والمشاعر بطريقة متسلسلة زمنيًا. ويشمل هذا النوع من الأدب اليوميّات والمذكرات، والسير الشخصية حيث تقدّم اليوميات تسجيلاً يوميًّا أو دورياً.

من جماليات أدب اليوميّات الصدق والأصالة والتأمل الذاتي والتفاصيل اليومية للكاتب والكاتبة. وبحسب الموسوعة البريطانية للمعارف، إنّ أدب اليوميات يضمن المساواة والإضاءة على تجارب ذاتية لأفراد ضمن مجتمعات معيّنة، وذلك من خلال النصوص واليوميات المكتوبة التي تشبه البوح الداخلي والمشاركة في تفاصيل الحياة واليوميّات.

بالعموم، يزدهر هذا النوع من الأدب في الأحداث الاستثنائية التي يمرّ بها الأفراد، من حروب وكوارث طبيعية وانتشار الأوبئة.. ومن هذه النقطة، يتميّز هذا الأدب في قيمته الوثائقية والمعرفية، بالإضافة إلى أنّ استخدامه لم يقتصر على الأدباء والأديبات، وإنّما تم استخدامه من قبل الجنود والممرضين والأطباء والطبيبات والمحامين، ما يعني أنّه ليس حكراً على أحد.

كتاب "أربعة عشر وجهاً حزيناً" للكاتبة السورية، براءة الطرن، والصادر عام 2022 عن منشورات المتوسّط، ينتمي إلى نوع أدب اليوميات أو أدب الاعتراف والبوح الذاتي، حيث تستمد الكاتبة عنوان كتابها من عدد الركاب في الميكروباص، أو مثلما يُطلق عليه في بعض المناطق في سورية "السرفيس". تختار الكاتبة وسيلة النقل كمكان أو فضاء ليومياتها في مدينة دمشق التي تعاني من آثار سنوات الحرب والقمع الطويلة.

الميكرو ليس فقط وسيلة تنقّل، وإنّما المكان المناسب أحياناً  للتفكير والتأمل بالأسئلة الوجودية والتداعي الحر للأفكار والذكريات، السيئة منها والجيّدة

"أعترف، أكشف أوراقاً. أعرف إجابات مئات الأسئلة، ما لا يعرفه إلا سائقو الخط الذين تجاوزت سنوات عملهم التسع، الذين لا يتأففون من مهنتهم ولا يلعنون الساعة والناس والشوارع والبلاد". تفتح الكاتبة يومياتها بحادثة شخصية أليمة تجسّدت على شكلِ ندبةٍ تركتها قذيفة هاون وقعت في حديقة منزلها في دمشق، ما خلق لديها رغبة بالبوح والتدوين والاعتراف والمشاركة.

ومن هذه الحادثة، تُواصل اليوميّات استعراض تفاصيل المدينة وسكانها وأماكنها المهمّشة والغنية، لتقدّم لنا دراسة مفصّلة وموسّعة عن الميكرو وعوالمه، حجمه، تموضع الركاب داخله، عادته وتقاليده وقواعده المعلنة والسرّية، فالميكرو ليس فقط وسيلة تنقّل، وإنّما المكان المناسب أحياناً  للتفكير والتأمل بالأسئلة الوجودية والتداعي الحر للأفكار والذكريات، السيئة منها والجيّدة.

تنتقل بعدها الكاتبة لسرد تأملاتها الذاتية في وجوه الركاب، زملاء المدينة والميكرو والحرب، تنقل لنا الكاتبة الإحساس بتلك الوجوه. فالميكرو هنا، هو من الأماكن المناسبة السهلة لالتقاط حال السكان في مدينة وقعت تحت رحمة العسكر والأمن، فتلك الوجوه والأجساد ليست بحاجة إلى جهدٍ كبير لفهم ما قد يدور في حياتها في مدينة قاتمة مثل دمشق.

"في دمشق التي توجعك من حيث لا تدري تتعدّد أسباب كسر الخاطر، يمكنك إحصاء المئات منها كلّ يوم". ونتابع على مدار اليوميّات أحلام وكوابيس اليقظة التي تشاركها الكاتبة مع القارئ بحميمية وبوح ذاتي، فالرحلة الطويلة في الميكرو والازدحام ومضايقات الركاب والمظاهر العسكرية وخرائط الحزن المرسومة على وجوه الركاب لا تترك مهرب أو منفذ للكاتبة.

تختار الكاتبة نوع اليوميّات بما يمثله من مجال فريد يقدّم للقارئ فرصة نادرة للاطلاع على الحياة الداخلية للأفراد، ويعكس تعقيدات الوجود الإنساني بطريقة مباشرة وحميمة، وبلغة واضحة وقوية ومباشرة تناسب الأحوال التي تمرّ بها مدينة دمشق.

براءة الطرن، كاتبة ومحامية سورية من مدينة حماه، ولدت في دمشق عام 1955، برز اسمها سابقاً من خلال كتابتها لصفحة أدبية أسبوعية في صحيفة "الأيام السورية"، تحت اسم: "ببراءة". و"أربعة عشر وجهاً حزيناً" هو كتابها الأوّل.