مقارعة العمالقة في نظر صبية الشارع

مقارعة العمالقة في نظر صبية الشارع

24 مايو 2022
+ الخط -

غريبة الأحداث التاريخية في تشابهها كيف تبقي المراقب مندهشاً من حذاقتها وتراقصها أمامه. ولعل سبب ذلك يعود إلى أن محركها كائن وحيد هو الإنسان باختلاف أعمار هذا الكائن والمواقع والوظائف التي يشغلها في هذه الحياة. في فترة زمنية يقال إنها في مطلع القرن الواحد والعشرين، أي فترة القوقعة للمجتمع السوري بعد وفاة رأس النظام السوري حافظ الأسد، وفي إحدى حارات حي بابا عمرو الشعبي حيث يعلو "جعير" الأطفال إما لعباً أو بكاءً في الشوارع وفي كليهما قض لمضجع أفراد البروليتاريا الرثة الذين يلجأون إلى القيلولة في أوقات العصر.

الآن المشهد يرتكز على الأطفال بشكل رئيس. إذ نشب نزاع وخصومة بين طفلين في الحي أحدهما يدعى فريد والآخر زياد، فريد يكبر زياد ببضع سنوات، ويعتبر نفسه من أسياد صبيان الحي وأرفعهم قدراً ومن رؤوسهم الذين لا يصطلى بنارهم. بينما زياد معروف بأنه شاب حسن السلوك لا يسبب المشاكل بالمقارنة مع بقية صبيان الحارة الأشقياء. زياد تكاد تختفي أخباره ولا تسمع أنباؤه إلى أن أتى صبي عتي مصاب بالعنجهية اسمه فايز معروف بقوته وبأسه الشديد وبدأ بتوعية زياد وتعليمه فنون الرد والثبات في وجه فريد الذي على ما يبدو قد اعتبر أن هدوء زياد ووداعته دعوة للركوب على ظهره وسلبه حقوقه تحت مسمى الدفاع عن مصالح آل بيته. فريد كان له مآرب أخرى من رغبته الدعس في بطن زياد وهي انتزاع اعتراف جديد من فايز وبقية صبيان الحارة بأنه أحد أقطاب القوة بين صبية الشارع. فريد لاحظ التقرب بين زياد وفايز وأزعجه ذلك، إذ قرأه بأنه تقرب يراد منه نجر خازوق كبير له في الشارع. الشارع كريه الرائحة وتزداد حرارته عاماً بعد عام.

وهذا الخازوق سيكون على الشكل التالي: لطالما كانت لفريد سوابق شهدت بتسلطه وغطرسته وأطماعه في توسيع نفوذه وحشد صبيان الحارة خلفه في وجه المعسكر المضاد بزعامة فايز. فريد ما برح يحاول جذب زياد إلى معسكره بالإكراه وبالحسنى لكن عبثاً يحاول. في المقابل فايز لطالما أراد تصغير حجم فريد الذي برز أخيرا منافسا على زعامة الشارع بأكمله. لذلك وضع فايز إظهار فريد على أنه لا يستأهل تلك الهيبة التي يحظى بها أمام صبيان الشارع، على رأس أولوياته.

أما عن فايز فيراقب النزاع على شرفة مظلمة في أحد المباني المطلة على هذا النزال يجلس على كرسيه المتهالك يرمي بين حين وآخر عصا لزياد يقاتل بها فريد العتيد

ومن أجل القيام بذلك سيكون من الضروري تدريب زياد على فنون القتال وتقديم عصا مدببة له يخبئها تحت ثيابه لتذوق أجناب فريد إذا أراد مهاجمته. وهكذا استغل فايز هذه الحالة واستطاع أن يقرب زياد من معسكره. وبوصولكم إلى هنا، أعتقد أنكم عرفتم عمن أتحدث! فريد إذا ما حولناه إلى شخصية عالمية قد يكون بوتين وزياد إذا ما أعطيناه قليلاً من الحظ أصبح زيلينسكي، أما فايز فالأدوية التي يأخذها لتبقيه على صوابه جعلت منه بايدن.

ولعل أوكرانيا جعلت المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها أكثر وضوحاً ونقلتها من لغة المجاملات والعداء المبطن والدبلوماسية القائمة على مدافع التصريحات تحت أجهزة التكييف إلى أرض الوغى حيث الغبار والبارود. المفارقة هنا أن الغرب كان حاضراً في أكرانيا منذ بدء العملية العسكرية الروسية عن طريق أسلحته وترسانته العسكرية التي طال انتظار تجريبها. أوكرانيا في نظر القوى الغربية هي المعركة التي تكشف الستار بينها وبين روسيا واختبار غرور روسيا ومزاعمها بأنها قوة عظمى.

حرب وكالة هي تلك التي تخوضها الولايات المتحدة في أوكرانيا والتسليح الكبير هو وكيل الغرب في هذه المعادلة. وليس من العدل أن يشير الإعلام الغربي إلى الصمود الاستثنائي الذي أظهره الأوكرانيون، فالصواريخ الأميركية والبريطانية المضادة للدروع والطائرات هي التي دفعت جحافل الجيش الروسي وعرباته إلى الخلف وإليها ينسب النصيب الأكبر من المقاومة والثبات الأوكراني في هذا النزاع. وبالتالي ليس من العدل أيضاً أن نقول إن روسيا تحارب أوكرانيا فقط، فالصواريخ والقذائف والأسلحة في أغلب الأحيان هي النقطة الفارقة ولا يهم إن كان حاملها أوكرانياً أم بريطانياً أم أميركياً.

أوكرانيا هذا البلد الوديع الذي ليس له ناقة أو جمل في هذه الصراع بين القطبين الروسي والأميركي. ذنبه من جهة أنه كان تابعاً للاتحاد السوفييتي ومن جهة أخرى أنه لجأ إلى دول تريد أن تضع روسيا على خازوق عن طريق أول دولة تطرق بابها من أجل الوصول إلى هذا الهدف. هي معركة استنزاف من دون أن تخسر الولايات المتحدة جنديا واحدا، معركة تكسير عظام فلاديمير بوتين ومن يحبس نفسه لوقت أطول. الولايات المتحدة كانت تنتظر بوتين ليبدأ الغزو وتغلق الباب عليه وتخوض معه نزالاً كنزال الشوارع بين صبيين في المدرسة ينتظر أحدهما الآخر أمام المدرسة في وقت "الحلة" (وقت انتهاء الدوام المدرسي وخروج التلاميذ من مدارسهم). وهنا الولايات المتحدة والغرب رمى الكلفة بأكملها على الأوكرانيين دولة وشعباً ومنذ ذلك الحين والغرب يصعد بالعقوبات على روسيا ويضخ الدعم العسكري لأوكرانيا ويخدم أجندته في رفع كلفة حرب أوكرانيا على روسيا.

لكن مهما رفعت هذه الكلفة على بوتين، من غير الممكن أن يتراجع عن هدفه لعدة أسباب ولو كانت نابعة من ذلك العقل البشري الذي تحدثنا عنه آنفا إلا أنها تساهم بنسبة لا يستهان بها في القوة المحركة للحرب في أوكرانيا: هذه المعركة معركة وجود واحترام بين الأمم لروسيا وبوتين باعتباره رجل مخابرات روسي. أيضاً امتداد الحرب نفسها إلى أكثر من شهرين هو حافز لبوتين للاستمرار مهما كلف الأمر. ولا يخفى على كثيرين سخرية الغرب من بوتين بجعل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بطلا وطنيا وعالميا في مواجهة بوتين بكل ثقله وشخصيته الغامضة، وهكذا فإن العراك "الشوارعجي" بين فريد وزياد قد بات أول نزاع بين صبيان الحارة يكون العالم شاهدا عليه بأكمله بدماء الطرفين تسفك على رصيف الحي حيث اعتادا اللعب معاً. أما عن فايز فيراقب النزاع على شرفة مظلمة في أحد المباني المطلة على هذا النزال يجلس على كرسيه المتهالك يرمي بين حين وآخر عصا لزياد يقاتل بها فريد العتيد.

عمرو شرف الدين بكار .. سورية
عمرو شرف الدين بكار
لاجئ وصحافي سوري مقيم في العاصمة البريطانية لندن، أعمل في التلفزيون العربي، درست الصحافة والإعلام في جامعة هارتفردشير شمال لندن والإذاعة والتلفزيون في الجامعة اللبنانية الدولية، وإدارة الأعمال في جامعة طرابلس اللبنانية