غزة تُبعث من جديد

غزة تُبعث من جديد

26 أكتوبر 2023
+ الخط -

"رأيت الشهداء واقفين، كلٌّ على نجمته.. سعداء بما قدّموا للموتى الأحياء من أمل" (محمود درويش).


لا تتوقف الجرائم والمجازر الإسرائيلية بحق أبناء الشعب الفلسطيني، حتى تُستأنف من جديد، وعلى نحو أكثر ترويعاً، وأشدّ تقتيلاً، مستهدفةً الأطفال والنساء والشيوخ. إذ لا يكاد يتوقف القصف على قطاع غزة، حتى يتجدّد بشكل متسارع، وبصورة أشدّ فتكاً، وإرهاباً، وترويعاً، وهذا في ظلّ وجود حالة إرهاب دولة منظّم، تؤمن بعقيدة القتل، والحرق، والإبادة الجماعية؛ التي طالما جاهر بها من يتولون الحكم في إسرائيل. 

العدوان الجاري على غزة اليوم، واحد من سلسلة طويلة من فصول الفتك والقتل والترويع بحق الفلسطينيين الآمنين القابضين على جمر وطنهم وثراه، مهما عصفت بهم الأزمان. وما يحدث الآن، ليس إلا ترجمة فعلية للهمجية الاحتلالية القائمة منذ النكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا، وجزء لا يتجزأ من العدوان المتواصل على المدن، والبلدات، والقرى، والمخيّمات، في الضفة الغربية، والقدس المحتلة.

أيضاً، إنّ ما يحدث ليس إلّا "تطبيعاً للوعي، تطبيعاً للوجدان، تطبيعاً للعين"، فإسرائيل تريد تكريس صورة أنّ قتل الحجر والبشر واستباحة قطاع غزة دورياً، واجتثاث كلّ ما يُمكن اجتثاثه، أمر طبيعي وليس مستهجناً، فالعقلية الإسرائيلية تستوجب دوماً على المنظومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية أن تقود عملية إرهاب دولة منظّم، وفقاً لحالة تتلاءم وأبارتهايدية الدولة وكولونياليتها المُستشرية، وهذا في ظلّ حالة إمعان واضح بتكثيف البطش تجاه كلّ ما هو فلسطيني، واجتثاث كلّ ما يمكن اجتثاثه، في ظلّ وجود بنك أهداف إسرائيلي قائم على قصف المساجد والأسواق والمشافي والمدارس واستهداف الأطفال الآمنين العُزل، فهذا بنك أهدافهم وهذه لغتهم!

اليوم، يتم إعادة إنتاج النكبة من جديد، وعلى نحو أشدّ إرهاباً وفظاعة، وكأنّ هيروشيما قد بُعثت مرّة أخرى، لكن هذه المرّة في غزة!

اليوم يُعاد إنتاج النكبة من جديد على نحو أشدّ إرهاباً وفظاعة، وكأنّ هيروشيما قد بُعثت مرّة أخرى، لكن هذه المرّة في غزة!
وفي خضمّ البطش الإسرائيلي حيال البشر والحجر في غزة، يطالب أعضاء الحكومة الإسرائيلية بشكل علني وصارخ بارتكاب المزيد من جرائم الحرب في غزة، فقطعوا الماء والغذاء والكهرباء والوقود، ومنعوا كلياً إدخال أيّة مساعدات إنسانية إلى غزة، في رسالة مفادها الرغبة في إحداث إبادة جماعية للسكان هناك، وقتل أكبر عدد منهم، وهذا على مرأى ومسمع العالم بأسره، وبشكل فظ وعلني تضرب إسرائيل بكلّ القرارات الدولية عرض الحائط، وتخرق القانون الدولي دون أن يرفّ لها رمش، وتنتهك القرارات والمواثيق الدولية والأممية بكلّ عنجهية وغطرسة وفجاجة.

 ومن هذا المنطلق، يصدح الكل الفلسطيني، دائماً وأبداً، بضرورة تحميل إسرائيل كامل المسؤولية عمّا ترتكبه من جرائم وفظائع، مطالبين المجتمع الدولي بتوحيد المعايير، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها المروّعة وانتهاكاتها المستمرة ضد أبناء شعبنا، وعدم السماح لهم بالإفلات من العقاب، فإسرائيل تفرض العقوبات الجماعية تجاه الفلسطينيين، ولا سيما الإبادة التي ترتكبها في غزة، وهذا ما يعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ولاتفاقية جنيف الرابعة، ولمضامين القانون الدولي الإنساني برُمّته. أيضاً، إسرائيل تمارس الحرمان من الحق في الحرية والحياة تجاه الفلسطينيين، وتُمأسس لسطوة مجموعة عرقية على أخرى، وتقود عملية إحلال وإحباط ديمغرافي، وتساهم في حرمان المشاركة الكاملة في جميع مميّزات المجتمع، وتنفّذ اعتقالات دورية، وتقصف البيوت على رؤوس سكانها، فهو نظام احتلال يسير نحو نظام الفصل العنصري بكلّ وضوح. 

وفي المحصلة النهائية، تُثبت غزة للجميع دوماً أنّ العالم كلّه محاصر إلا هي، وأنّ كلّ ضمائر الكون مجمّدة ومقيّدة، وأنّ الضمير الحيّ التحرّري يصدح في غزة، وينبض في القدس، ويقاوم في الضفة الغربية، ويناضل في الداخل الفلسطيني، ويشعّ نوراً عند فلسطينيّي الشتات. وتبقى الحقيقة الثابتة بأنّ الشعب الفلسطيني ستنتصر قوة إرادته على إرادة القوة والطغيان، وستظلّ تضحيات الفلسطينيين بمثابة خريطة ترسم ملامح التحرير والانعتاق من الاحتلال، وهي قصة انتماء صادق إلى هذه الأرض، وترنيمة وطنية عالية القداسة، وسيمفونية تحرّرية عظيمة تعزف ألحان الوطن السليب وشموخه، إذ من الممكن جداً قتل الثائر، لكن هذا لا يعني أبداً قتل الثورة. 

محمود العزة
محمود العزة
باحث وكاتب، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية، وماجستير في الدراسات الإسرائيلية.