عشر أحلامنا المنهكة

عشر أحلامنا المنهكة

17 مارس 2021
+ الخط -

شخوص مصطنعة تملأ شاشاتنا، أفكار هشة وصور بليدة، لم يعد التاريخ قادرًا على التجسد، لم تعد أدواته قابلة للتمثيل والتصوير، تتهاوى صوره ويترك دوي ارتطامها على الأرض قسوة وجلبة، أحاول لملمة قطعها، علي أعيد تشكيل الصورة مرة أخرى، ولكنها تتكسر بين يدي ثانية وثالثة ورابعة، وبين كل تكسر وآخر تزداد الجروح النازفة، وتئن جروحي مني، حتى باتت الضمادات بحاجة هي نفسها إلى ضمادات جديدة أكثر وأصغر.. ومرة ثانية لم يعد تشكيل التاريخ مهمة أساسية في هذه الأيام.. نحن خارج الصناعة، وربما خارج الزمن أيضاً.

لم يبق الكثير مما تُمكن حكايته، لقد أصبح التغيير أكبر من أحلامٍ صغيرة مبعثرة، أحلام صبية يفترشون التراب في مساء صيفي حالم.. نبتت أحلامهم كأنها أجنحة دقيقة، كانت أطواق الياسمين تتنقل على رقابهم الغضة، حناجرهم تصدح كأنهم صوفيٌ قد غاب في سكرات حبه الإلهي.. ولكن أجنحتهم الغضة بقيت صغيرة جدًا، فلا هي حملتهم إلى آفاقٍ جديدة، ولا استطاعت مقاومة أولى رياح الشتاء العاصف.. لم تكن المقاومة مجدية كثيرًا، ذبلت الحكاية في الخريف التالي، أحاول البحث عنهم في وجوه محارق الموت، في ثنايا الشوارع المدمرة.. أتمسك بما بقي، أجتهد وغيري البقاء في أتون الانهيار هذا، ولكنني في لحظة تجلٍ مشهودة، أسأل نفسي: لم كل هذا؟ كيف ومتى، أكرر السؤال مرارًا.. ولا جواب..

أتطلع مرة أخرى باحثاً عن الأجوبة، لم تنضب المنابع العذبة، ولكننا بحثنا في مصبات لوثناها بأيدينا، فلا عمر يظهر في أفق القدس حاملاً عدل الدنيا وهو بثوب مرقع..

أتطلع إلى التاريخ، علّي أجد فيه إجابةً لم يجدها من بحث عن كنوزه قبلي.. ولكنني وجدته جذعًا يابسًا، وأرضًا خاوية ما مستها حياة قط، هل يمكن أن يتجسد لي علّي أستطيع سؤاله عما يختلج في صدري، أستفسر منه عن ما جرى.. هل سيعقل الناس سطوة أجوبته، أم أنهم في شُغل عنه وعن إجاباته الواضحة والقاسية.. أو.. وأقول ربما سيندفعون صوبه كوحوشٍ فرت من كهوفٍ غامضة مفزعة.. ليخنقوا صوته ويكتموا حقيقة لا يريدها أحد منهم، كطفلٍ الخطيئة الذي ما اعترف به أحد، بقي مرميًا هناك يبكي وصراخه يجلد ظهور تاركيه.. هي قبلية الجاهلية الأولى.. هو ليس لزماننا ولن يكون..

ترى القبلية في عصر ما بعد الحداثة قد تدثرت بأثواب جديدة، لم يعد الفارس هو الركيزة، بل أصبحت الركائز منوعة مختلفة، ولكن معيارنا القبلي بقي ذاته، استبدلنا اللباس القديم بربطات العنق، وبدل النطع والسيف جاءت البندقية والمخبر والفرع الأمني والاستدعاء.. وفي مقابل الإبل والأنعام كان الدولار والنفوذ والسطوة، شيخ القبيلة ينتهك حرمات القطيع، تعلو الطائفية والفردية يموت الجميع ويعيش شيخ قبيلتنا الضرغام.. أفكارنا أعمالنا مواقفنا هي أسُّ الجاهلية..

أتطلع مرة أخرى باحثًا عن الأجوبة، لم تنضب المنابع العذبة، ولكننا بحثنا في مصبات لوثناها بأيدينا، فلا عمر يظهر في أفق القدس حاملًا عدل الدنيا وهو بثوب مرقع.. وهارون قد أغلق على نفسه القصر، ويوسف قد شاخ قبل ميلاد الرباط، ولا غبار ينجلي من حطين، وحصان الفاتح قد توقف عن المسير، وسيف سليم ما عاد قاطعًا ولا عجوز في القدس تدعو لسليمان..

أطراف حق وأطياف حر يتجولان في أحلامنا المنهكة، عشرٌ من السنوات مرت، شاخ فيها الربيع وما شب شتاء هذه الأمة المكلومة، أنقاضٌ مبعثرةٌ وتلال هزائمنا جبال من نورٍ ونار، لم تكن الكرامة سوى ضريبة صغيرة دفعها جيلٌ بأكمله، سيشهد التاريخ انبعاثًا جديدًا، وستنبت الأجنحة لا محالة مرة أخرى.. حرٌ يحمل حقه، وربيعٌ يُنبت زرعه، والحصاد قاب قوسين أو أدنى.. والناس صنفان باع لله فأعتق، أو باع للسلطة والهوى فأوبق..

دلالات

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".