طوفان الجماهير العربية

طوفان الجماهير العربية

16 أكتوبر 2023
+ الخط -

أحاول النوم ولا أستطيع، كلما أغلقت عيني أرى أشلاء الشهداء وأجسادهم البريئة، ويخيل لي أنني أسمع دوي الطائرات وصوت الحمم المنهمرة، أفتح عيني مجددًا، لست هناك معهم، ولكنني أشعر بهذه المشاعر ويجافيني النوم عن بعد آلاف الكيلومترات.

أكتب ذلك لا لأُظهر كرامة شخصية، ولست بكل تأكيد أنبل شعورًا وأكثر قربًا من المكلومين، ولكنني أقول ذلك -وإني مثل الآلاف من أترابي، عاينا آلام منطقتنا منذ وعيت على هذه الدنيا، وقد استسغنا الفواجع وألفنا المخاطر- وإنني بعيد أتابع ما يجري عبر الشاشات وأخبار وسائل التواصل، فكيف بمن يعيش في تلك الأوضاع منذ ثمانية أيام، لا بل منذ 16 عشر عامًا، وأقرانهم في سورية ومن قبلها العراق، مجرد تصور هذه الأهوال تُشعرك باختناق لا إراديّ.

ومع ما يجري من تقاعس رسميّ عربي، يصل في الكثير من الأحيان إلى درجة الخنوع للاحتلال ومن خلفه الولايات المتحدة، أو التواطؤ عما يجري من جرائم بشعة، ومحاولة إحداث تغيير في المنطقة، تمحى فيها القضية الفلسطينية، وتغير طبيعة المنطقة بتحالفات جديدة، ترسخ الاحتلال وقوته، ويمكن أن نتحدث عنها في تدوينة لاحقة. وبعيدًا عن هذه التفاصيل، إلا أن هذه الحرب أعادت الحالة الشعبية إلى الصدارة، وأعطت فرصة للجماهير لأن تقول كلمتها، على أثر تكميم الأفواه بعض سنين، وهي حالة أشار الكثيرون إلى أنها يمكن أن تشكل فرصة تاريخية للقوى التي تلقت الضربات المتتالية في موجة وأد الربيع العربي، ومما يمكن تسجيله من هذا التفاعل ما يأتي:

أولًا، لم يعد الالتفاف حول المقاومة عامل خوف، فقد أصبح التعاطف مع المقاومة وصمة عار بسبب الحملة الكبيرة التي شنتها الدول العربية المطبعة، بل وسجن الكثيرون لأنهم يدعمون المقاومة، أو يمثلوها، وهو ما انفرط عقده مع هذه المعركة، فعادت الشعارات المعتادة إلى الميادين العربية والإسلامية مؤكدة أن المقاومة هي الحل الوحيد لاستعادة الأراضي المحتلة.

ثانيًا، استعادة التفاعل الشعبي المصري مع فلسطين، وفي مواجهة العدوان على قطاع غزة، وهو تفاعل استثنائي ونوعيّ، والذي وصل إلى التظاهر نصرة لفلسطين وغزة في القاهرة (الأزهر) والإسكندرية ومدن أُخرى، وإطلاق المصريين مبادرات فاعلة لمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال، على أثر نشرها صورًا لتقديم وجبات لجنود الاحتلال، وتحضير المصريين شعبيًا (ورسميًا) لقوافل المساعدات الضخمة ووقوفها أمام معبر رفح بالمئات، بل لقد وصل الوعي الجمعي المصري إلى حد حملات لإلغاء المتابعة لمشاهير يُجمع المصريون على تقديرهم وحبهم، لأن هؤلاء صمتوا عما يجري من عدوان غاشم بحق قطاع غزة، بل ما زال المصريون يقدمون نماذج مميزة من التفاعل مع فلسطين وغزة.

ثالثًا، استعادة الزخم العربي والإسلامي الجماهيري المتفاعل مع فلسطين وقضاياها، وهو تفاعلٌ متصاعد كاد أن يختفي في السنوات الماضية، ففي جمعة طوفان الأقصى التي دعت إليها الفصائل الفلسطينية، شهدت العديد من الدول تظاهرات ضخمة، امتدت من تونس إلى أفغانستان، بل شهد عددٌ من الدول الخليجية وقفات بعد صلاة الجمعة، في قطر والبحرين وعُمان. وفي الأيام اللاحقة، عادت إلى المشهد التظاهرات المليونية الضخمة، وقد شهدتها مدن في باكستان وتركيا والمغرب، وهو حراك مرشح للتصاعد مع استمرار العدوان.

حاولت الولايات المتحدة الأميركية ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول خنق أي تفاعل مالي مع فلسطين وقضاياها، وهو ما استفاد منه الاحتلال كثيرًا

رابعًا، حاولت الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول، خنق أي تفاعل مالي مع فلسطين وقضاياها، وهو ما استفاد منه الاحتلال كثيرًا، وسعى عبر شعارات محاربة "الإرهاب" إلى منع الفلسطينيين من تلقي أي مساعدات عربية، وحصرهم في قنوات أممية لا تلتفت إلا لقضايا بعينها، وعلى أثر معركة الطوفان، انطلق العديد من الحملات الشعبية في الخليج عامة، وفي قطر والكويت على وجه الخصوص، لدعم المكلومين في غزة والوقوف إلى جانبهم.

خامسًا، نشاط عددٍ لا بأس به من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي في التعريف بالقضية، وإنتاج المقاطع المصورة الإبداعية، وهو جهد مهم في وقتٍ تسيطر فيه رواية الاحتلال في وسائل الإعلام الغربية، وتحولهم من تقديم محتوى التفاهة – وهؤلاء ليسوا جميعًا منهم – إلى المحتوى اللصيق بهموم منطقتنا وقضاياها، وهو ما يجب أن يمتد إلى المزيد من "المؤثرين"، وخاصة من يملك ملايين المتابعين، مع معرفة غُرم القيود من قبل المنصات المنحازة للاحتلال.

أخيرًا، وعلى الرغم من كل هذه النقاط المضيئة، والتغيرات الكبرى، إلا أن الواقع يحتاج المزيد من العمل، والحاجة أكبر من ذلك بكثير، والتقاعس الرسمي العربي لا يمكن أن يمرّ البتة، ما يستوجب من الجماهير العربية أن تستمر في ضغوطها، وهي رسالة مزدوجة، من جهة إلى هذه الأنظمة لترفع من سوية تفاعله، وتقوم بالمزيد من الجهود، وللمحاصرين والمقاومين، بأن نبض المقاومة لم يخفت في قلوب الجماهير، وأن خروجها إلى الميادين خطوة للخروج إلى الحدود، والالتحام في معركة التحرير القادمة.

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".