"ضميني.. خفت منك"

"ضميني.. خفت منك"

12 يوليو 2023
+ الخط -

"ضميني وانسي الدنيا... ضميني وانسي الناس".

 كانت هذه الأغنية، ومطلعها، منذ بداية التسعينيات وحتى قرابة نهاية العشرية الأولى من الألفية الجديدة، هي "الماستر سين" لكلّ حفلات الخطوبة والأعراس. يرقص عليها العروسان (سلو)، كأوّل أغنية في بداية الحفلة، وآخر أغنية في ختامها، وكأنّ الحبيبين لن يكتمل تتويجهما إلا بين شطري "ضميني" و"ملناش غير الإحساس".

انتشرت الأغنية في ربوع مصر، وفي كلّ الأوساط، بمن فيها المحافظون الذين كانوا يعتبرون مغنيها صوت الفن "الهادف والنظيف والرسائلي الملتزم". لم يكن أحد حينها يجد في كلماتها خدشا لحيائه، خاصة في مجتمع كمثل الذي قدمت منه، رغم أنّ هناك فنانين آخرين كانوا يغنون بقرابة معنى "ضميني"، لكن لم يكن مقبولاً منهم باعتبارهم غير "ملتزمين" في نظرة المتحفظين!

"بس واحد فينا مش نصيب التاني"، كان هذا هو نصف الحكاية الثاني الذي شاركنا فيها إيمان، بأغنيته "حدّ فينا" التي كانت من ضمن مجموعة "الألم" في مراهقتنا أثناء مرورنا بأيّ أزمة عاطفية، وفعلاً يا بحر يا درويش "كل يوم بيمر.. بتموت الحكاية". ما بين "ضميني وانسي الدنيا" و"مين الي ضيع في الهوى عمره"، تشكّل جزء من مراهقتي العاطفية.

قبلها، حضر في طفولتي بـ"في البحر سمكة" و"يا وبور يا مولع"، وفي بداية وعي الحماس للنضال حضر بـ"قول يا قلم يا قول" مروراً بـ"يا ظالم". وفي الشجن والوجع المركّب حضر بـ"ولا عمرك وحشتيني" و"أشيلك يا ضنايا شيل"، ولأمته غنى "الجرح الأليم" و"أذن يا بلال فوق الأقصى".. وأغان أخرى كثيرة.

الصورة سُبّة في جبين المعنيين في هذه الدولة، فلو كان "إيمان" في بلد آخر يحترم الفن والفنانين لما كان هذا حاله، ولما استنجدت نجلته بهذا الشكل

يوم الاثنين، نشرت أمنية ابنة الفنان إيمان البحر درويش صورة في منتهى القسوة لوالدها حفيد فنان الشعب سيد درويش، كتبت عليها: "سيشهد التاريخ ان ده بقى إيمان البحر درويش".

لن أدخل في نقاش "مشروعية" أو "أخلاقية" نشر الصورة لإنسان وصل به المرض إلى هذا الحد، سأعتبرها صرخة إيمان في وجه من ظلموه وقهروه. وكأنّ لسان مرضه: "اصرخ ولم الناس.. افتح لنا الكراس". سبب آخر يمنعني من دخول نقاش الصورة، هو ألا أكون مشاركاً في لوم الضحية وقهره مرتين.

في النصف الأول من 2021، خرج إيمان البحر درويش، في بثّ مباشر عبر صفحته على الفيسبوك، انتقد فيه النظام بشكل حاد بسبب الأداء السيئ في ملف سد النهضة، وأنّ الشعب أصبح مهدّدا في مائه.

"يا بلدنا يا بلد" غضب إيمان كمواطن مصري يرى نيله يذهب، فشنّ الإعلام الموالي للسلطة عليه حملة بشعة لم تقف عنده فقط، بل طاولت جده سيد درويش. ونعتوه في حملتهم بأحطّ الألفاظ، وبعدها اختفى "إيمان" لوقت قصير ثم عاد ببثّ آخر كان من ضمن ما قاله: "إذا كنّا بنقول إنّ الأمن يستطيع أن يفعل أيّ حاجة، فهو يقدر يعمل أي حاجة آه، بس أنا عشان مبخافش، لا منهم، ولا من اليّ مشغلهم، ولا من حد خالص، أنا لا أخاف غير من الله بس"، ثم أردف: "عشان كد قلت: يا ظالم مهما تجرحني وغدر الظلم يذبحني.. ده أنا عمري ما أعيش محني ولا أركع لغير الله". في إشارة لأغنيته "يا ظالم". واستنكر أيضا على إعلام جماعة الإخوان المسلمين قوله بأنه معتقل أو مسافر.

كان هذا آخر ظهور له، ثم اختفى تماماً، فلما طالت فترة غيابه تضاربت الأخبار حينها حول السبب، ما بين قائلين بأنّه تمّ اعتقاله، وآخرين قالوا قيد الإقامة الجبرية، وأخرى منسوبة لبعض دوائره، بأنه تعرّض لوعكة صحية.. أخبار متضاربة، محصلتها الوحيدة، لا خبر على مدار سنتين، حتى ظهرت الصورة.

أنقذوا إيمان البحر درويش، فمن جده إليه، تاريخ طويل متجذّر في هذا الوطن، ومتجذر في أجيال تعاقبت على أرضه

وأيّا كان السبب الذي اضطر ابنته لنشر الصورة بكلّ ما فيها من ألم، فهذه الصورة سُبّة في جبين المعنيين في هذه الدولة، فلو كان "إيمان" في بلد آخر يحترم الفن والفنانين لما كان هذا حاله، ولما استنجدت نجلته بهذا الشكل.

أنقذوا إيمان البحر درويش، فمن جده إليه، تاريخ طويل متجذّر في هذا الوطن، ومتجذر في أجيال تعاقبت على أرضه.

كلّ التمنيات بالشفاء العاجل للفنان إيمان البحر درويش، وأن تصل صرخته إلى بلده، لا أن يُترك كما آخر منشورين على صفحته الرسمية في مارس/ آذار الماضي: "يا مصر لو ع الموت أنا مت 100 مرة". و"يا بلدنا يا بلد هو من امتى الولد، بيخاف من أمه لما في الضلمة تضمه، صدقيني خوفت منك، خوفت منك صدقيني..".

"إيدي واحدة وأنت واحدة

مدي إيدك ويا إيدي

عايز أصرخلك وعاجز

نفسي.."

عبد الرحمن فارس
عبد الرحمن فارس
محرر أول، من أسرة العربي الجديد. (طفلٌ صغيرٌ في جحيمِ الموجِ حاصرهُ الغرق). منفي، خامل اجتماعيا، مؤمنٌ بالحرية. مدينٌ لثورة 25 يناير بكثيرٍ لا ينتهي.