رحلة الموت لعائشة والاحتمالات المقيتة

رحلة الموت لعائشة والاحتمالات المقيتة

22 فبراير 2022
+ الخط -

في السفر يتعرف الإنسان على نفسه إلاَ في بلد يسمّونه السعيد، فهو يتعرف على أحزانه وأحقاده! الخامسة فجراً، كانت موعد رحلتنا إلى العاصمة صنعاء التي تبعد عن مدينتنا تعز مقدار 13 ساعة (حسب ساعة الحرب). تطلعات كبيرة ورضا غامر، كانت هذه مشاعري، كتبتُ رحلتي وأنا أستمتع بالنسمات الباردة، وأشبه جداً بحالتي حالياً خارج منطقة الراحة، وداخل منطقة الاستكشاف.

رافقتني أمي عائشة (كما أحب مناداتها) ذات الخمسين عاما والمصابة بإعاقة بدنية خلفتها الحرب في تعز، هي أيضا سافرت للعلاج بعد أن يئست من تدهور الخدمة الصحية في مستشفيات المدينة..

"أنا إنسانة مريضة، قدمي وعمودي الفقري لا يتحمَلان السرعة في هذه الطريق الوعرة".. هذا ما وضعته أمي على مائدة الحديث مع السائق بعد صعودها الناقلة بصعوبة، كان الموضوع يتمحور عن الذات والألم، فاضت المشاعر وكأنها حصة تأمل فنية!

ظل الوضع راكداً حتى وصلنا إلى طريق الأقروض (طريق وحيدة وبديلة فرضتها الحرب والحصار على أكثر من مليوني مواطن في تعز)، هذا الطريق الجبلي لا يشبه إلا طريق السلام في اليمن فهو محفوف بالمصاعب والموت المحتوم..

وجدتُ نفسي أكتبُ عن المخلوق النصفي.. وقصر المارد، عن تعز وبسمات الأطفال البريئة ونسيم الصبح والدموع النازفة بسبب الجرح.. عن إنسان مقدس.. يحمل سر الخلق بين جوانحه!..

ثمة حياة ثقيلة في مدن الموت.. لن يراها إلا ساكنوها وعين الله التي لا تغفل عن شيء. وثمة حُزن لا يحتاج شرحاً في يد العجوز التي لم تبع قسطها من الخُبز في سوق المدينة..

فجأة شاهدتُ عائشة بجانبي تُمسك بحزام الأمان في الناقلة وتشد بقوة وكأنها توشك على السقوط وتحاول النجاة، تصرخ بين فينة وأخرى في وجه السائق (خفف السرعة) وكان يحاول طمأنتها بأنه يريد الوصول سريعا قبل أن يعلق في الزحام، تئن كثيرا وتنفث ثاني أكسيد الكربون أكثر، تسألني تكرارا عن الوقت المتبقي للوصول إلى نهاية هذه الرحلة، وكأنها في امتحان صعب تريد الخروج منه بأقل الخسائر.

مضت ساعة أنين ثم انفجرت عائشة بالبكاء بعد أن شعرت بآلام قوية لم تستطع هزيمتها، وطلبت إيقاف الحافلة في أقرب مركز صحي على الطريق، لكن صاعقة أن طريق الأقروض خال تماما من أي مركز صحي كان أشد وطأة عليها من ألم جسدها.

الجميع قدم لها مصطلحات التصبير على أمل أن تنجو من الألم الذي حاصرها بيد أنها غابت عن الوعي بعد مضي ساعتين من انطلاق رحلة الخمس ساعات (المُفترضة) حتى أقرب مركز صحي في منطقة الدمنة (نقطة نهاية الطريق)، لم نستطع إيقاف الحافلة فخلفنا سرب طويل من الناقلات السريعة والطريق ضيق جدا وخال من أي خدمات عامة، لكننا استطعنا إفاقتها بعد أن سكبنا قنينة الماء على وجهها.. لم تتوقف عائشة بعدها عن الأنين والبكاء، وقلبي أيضا!

في بلاد لا يمتلك الإنسان البسيط سيارة فارهة تقله في الطرق الوعرة ويستمتع بهواء مكيفها البارد وبالمناظر من الشبابيك المغلقة يُعد السفر كابوسا وسيناريو مُقيتا..  خاصة للمرضى وكبار السن الذي يصلون إلى منازلهم بعد أن سكن التراب أجسادهم وتشبث الوجع بهم.

يغمرني الغضب والحقد كلما خطرت ببالي الحرب والحصار على هذه المدينة المكلومة، لماذا يحرمني ما قيل لي إنه وطني من كل فرصة للحياة، ما زال الدم على وجهي منذ ولادتي! ألم يخطر ببال الطبيب أن عليه غسله كي أستطيع رؤية الحياة! أنا بنت الجُرح المُتقيح على وجه هذا الوطن..

نهار كامل ونصف الليل استغرقناه للوصول إلى صنعاء كأطول رحلة لنا، قبعنا فيها لاحتمالات الموت البطيء فتوقفت رحلتنا بسبب حادث مروري لناقلة تُقل كبار السن أيضا وشاحنة بضائع ، ثم بسبب انهيار صخرة كبيرة وقطع الطريق لساعات، أضف إلى ذلك تكرار نفاد الوقود وتعطل الناقلة المفاجئ وحاجة النساء وكبار السن إلى دورات المياه، وانتشار النقاط الأمنية والتعرض  فيها للتفتيش والإهانات بسبب انتماءات بعض المسافرين إلى شمال اليمن؛ موطن عدوهم اللدود (الحوثي)، كل هذه لن تعني لأطراف النزاع المتحكمة في حصار تعز شيئا ما دامت الحرب أصبحت لهم الدجاجة التي تبيض ذهبا، بينما تنفجر منازل سكان تعز بأوجاع أبنائها أثناء السفر والتنقل.

كما أن والدتي المُسنة تحتاج  بشكل مستمر إلى رعاية طبية في صنعاء وترفض مرارا السفر في هذا الطريق خوفا من تعرضها لمضاعفات جديدة أو حوادث؛ أيضا شقيقي المصاب بمرض السرطان يسافر مضطرا فيصل إلى طبيبه بأوجاع جديدة، وبين الخوف من الهلاك والمعاناة تموت مساحة شاسعة من إنسانيتنا.

تعز المدينة التي أحبها الله، تسحب أول الخلق إلى أبجديتها، فترى صورة آدم وحواء يرتجفان على سفح جبل، غرباء إلا من نور الله، وترى القتيل والقاتل..

ثمة حياة ثقيلة في مدن الموت.. لن يراها إلا ساكنوها وعين الله التي لا تغفل عن شيء. وثمة حُزن لا يحتاج شرحاً في يد العجوز التي لم تبع قسطها من الخُبز في سوق المدينة..

ومثل أن الندبة المخبأة تحت الإبط لفتاة عادت من اغتصاب عابر تركت فجوةً تتسع في السماء، لصوت واحد وهذيان صريح هو نصيحته الخائفة من الانكشاف: اسكت.

10239013-1BB8-4CF7-B719-E44FB6033BA4
أحلام المقالح

مواليد اليمن - تعز... كاتبة صحفية وقاصة، لها عدة مقالات وتقارير مترجمة، منشورة في صحف محلية وعربية ولها عملان أدبيان: كتاب "ومرآة عمياء"، ورواية "طيرمانة".

مدونات أخرى