داء الجذام.. بين الرواية والدين

داء الجذام.. بين الرواية والدين

12 ابريل 2023
+ الخط -

كانت أطرافها مشوّهة بطريقة مخيفة جداً، أما وجهها، ففيه بعض النتوءات الغريبة. إنها السيدة اليابانية العجوز "يوشي"، إحدى بطلات رواية "ملذات طوكيو" لكاتبها دوريان سوكيغاوا. في الرواية، تتفنّن السيدة "يوشي" بصنع حشوة الدورياكي الشهيرة، وهي فطائر حلوة المذاق، تساعد فيها مُشغّلها سينتاروا في محله الصغير. فجأة، يتوقف الزبائن عن زيارة المحل بعد أن كانوا يقفون طوابير أمام بابه، لتدرك أنّ السبب هو مرض الجذام أو داء هانسن! 

يكتشف المرء في منتصف الرواية، أنّ تلك السيدة كانت مصابة منذ طفولتها بمرض الجذام، رغم أنها شفيت منه منذ أربعين عاماً! إلا أنّ الزبائن هجروا المحل خوفاً من العدوى، وهي حتى بعد زوال المرض، ما زالت تسكن في إحدى مصحات طوكيو المعروفة.

من خلال تلك الرواية الرائعة، وما تحويه من تفاصيل تغوص في قلب الذات الإنسانية، يتعرّف القارئ إلى الجذام وإلى معاناة المرضى، وليست معاناة من المرض فحسب، بل من المجتمع والناس أيضاً. فالكاتب يروي قصة "يوشي" التي حُرمت عائلتَها، وهي طفلة، ووضعت في مصحة، لتبقى وحدها منبوذة. كان المصابون بالجذام في ذلك الوقت في اليابان وأغلب دول العالم يعاملون كالوحوش، يُنفَون في المصحات دون حقوق بشرية، ليشكلوا مجتمعاً صغيراً، ويكوّنوا حلقات لتعلّم بعض أمور الحياة، كالطبخ والفن والشعر. لا يجرؤ أحد على الاقتراب من محيط المصحة بسبب خوفهم من العدوى، التي تلاشت لاحقاً مع ابتكار عقار للعلاج. لكن، مع ذلك، ظلّت "يوشي" في المصحة حتى مماتها ودُفنت فيها. اختفى المرض من اليابان، ومن العالم، ولكن ظلت سمعة مرض هانسن أو الجذام، تخيف سامعيه، وبقي المرضى (بحسب الرواية) محرومون الكثير من حقوقهم.

تظهر الرواية وجه اليابان الحقيقي، الذي تغافل عن حقوق مرضى داء هانسن، وهو البلد الذي يُعنى بالتحضّر والرقي، ولكن مرضى الجذام على ما يبدو خارج التصنيف، حيث انضم اليابان إلى ركب الدول التى تعامل مرضى هانسن بقسوة، لتكتشف أنّ المرض له باعٌ طويل في التاريخ والكتب السماوية، وهو يشكل بحدّ ذاته حالة تجمع بين الرعب والنجاسة!

إنه الجذام، وفي اسمه رعب دفين، فلقد استعاذ منه الرسول الكريم محمد (ص) عدّة مرات، وسُمّي الجذام لأنّ المصاب فيه تجذم أطرافه، أي تتآكل، وهو يحدث نتيجة بكتيريا تؤثر في الجلد والأعصاب الطرفية والغشاء المخاطي. ذُكر الجذام في كلّ من الشريعة الإسلامية والأحاديث النبوية. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر. وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد". وفي حديث آخر، عن عمرو بن الشريد رضي الله عنه، قال: "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع"، وهما حديثان صحيحان. كذلك ذكر الجذام في القرآن الكريم، "ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين". وفي الآية "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين". وجاء البرص هنا دلالة على الجذام.

في الماضي، كان المصابون بالجذام يعاملون كالوحوش، ويتم نفيهم في المصحات دون أيّة حقوق بشرية

 ولأنّ سيدنا أيوب، يعتبر أكثر البشر ابتلاءً، أصيب بهذا المرض، ولم يجد نبي الله أيوب عليه السلام مخرجاً من بلائه سوى اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى الذي استجاب له وأزال ما به من مرض.

أيضاً، عانى المصابون بالجذام قديماً من الإهانات والضرب والتنكيل على مرّ العصور، خصوصاً من رجال الدين والكهنة الذين اعتبروا المصاب آثماً. وجاء ذكر هذا المرض في التوراة، ففي سفر اللاويين، ثمّة وصف للبرص (الجذام)، وكيف يمكن أن يميّزه الكاهن من البقع البيضاء التي قد تكون حزازاً أو ناتجة بعد الكي، أو بعد إصابة جلدية، أو جروح، ولا شك أنّ كثيراً من الذين حكم عليهم أنهم مصابون بالجذام لم يكونوا يعانون منه.

ويعتبر المصاب بالجذام نَجِسًا ويخرج من البلدة، وفى اللحظة التي يعلن فيها الكاهن أن شخصاً ما مصاب بالجذام تشق ثيابه، وينادى عليه "نجس". وكان علاج الجذام مشوباً بالخرافات، كذبح الحيوانات وتلطيخ المصاب بالدماء.
ذكر كذلك، هذا المرض في الإنجيل أيضاً، حيث وُصف بوضوح في بعض أبواب العهدين القديم والجديد. ففي العهد القديم، الجذام هو ترجمة عن الكلمة العبرية "شرطة" التي وصفت بأنها تشويه حرشفي على الجلد أو القماش، وهذه التشويهات الجلدية مصاحبة بتلويث طقسي، وإنه حصل نتيجة ذنب ولا ينظر إليه كمرض.
في أوروبا سنة 757، أصدر ملك الفرنجة، بيبان، مرسوماً يحكم فيه بأنّ الزواج بالمصاب بالجذام غير شرعي، والمرض في حدّ ذاته مسبّب للطلاق.
أما ملك فرنسا، فيليب الرابع، فقد أوعز بأن يُحرق المصابون بالجذام، إذ يجمعون فيهم هذا الحكم دائماً حتى يستأصل هذا المرض نهائياً.

لم ترحم الطقوس الدينية القديمة، ولا التاريخ القديم في أوروبا، خلال القرون الوسطى مرضى الجذام، فظلّ مرضهم كلعنات تلاحقهم حتى يقضي عليهم المجتمع قبل الداء نفسه.

وعلى الرغم من وجود أمراض قاتلة بلا علاج حتى يومنا هذا، بقي الجذام ذلك المرض الذي أخذ الحيز الأوسع من خوف الناس، إذ عانى المصابون به من شتى أنواع الإهانات والتنكيل، ويرجع ذلك إلى اعتقاد الناس أنه غضب من الله يتحوّل فيه الرجل إلى مسخ قبيح.

من الطبيعي أنّ لكلّ عصر وحضارة أمراضها الفتاكة، لكن الجذام قضّ مضجع الحضارات الإنسانية عبر التاريخ وتطيّروا به، إلى درجة أنه حضر بوضوح في الكتب السماوية، وبعد مرور آلاف السنين ومع التطوّر الإنساني والطبي ما زالت آثاره حاضرة بحسب الرواية التي تحكي قصة من القرن الحديث. وعلى الرغم من تلاشي المرض وإيجاد عقار يشفي صاحبه، إلا أنّ عقدة الجذام ما زالت حاضرة، على ما يبدو، عند البشر. 

دلالات

هانم بلال جمعة
هانم بلال جمعة
مدربة رياضية وكاتبة، حاصلة على ماجستير في الإعلام، ولاعبة في منتخب لبنان لكرة الطاولة. أعمل في مجال التعليم منذ ثلاث سنوات، وكاتبة للمدونات